هذه أيام ماطرة، عادةً الأيام الماطرة قصيرة، أما هذه فهي ماطرة طويلة.. يسعني أن أعمل وأشعر بالطقس وبالرضا أن شيئًا لم يفتني.
المنزل مكان يمكننا الاختباء فيه كأننا تلاشينا من هذا العالم، هناك يسعنا أن نراقب بصمت، كيف تأتي العاصفة وتذهب.. بينما لا يمسّنا سوء. حينما نخرج، ندرك يقينًا أن المنزل سيظلّ موجودًا متى ما أردنا الرجوع إليه.
في المنزل، ننسى أن الجدران موجودة، وحينما تغلب العتمة، نظل مطمئنين، لأننا نعلم أنه لا وجود لظلام قد يبتلعنا.
في الخريف الماضي بمثل هذا الوقت، اعتدت الركض لنصف ساعة كل يوم في الخارج بمفردي، رغم أنها عادة قمت بها لفترة قصيرة من حياتي لأني انشغلت و.. حسنًا ربما تكاسلت.
كان الجو آنذاك باردًا للغاية، خلافًا لخريف هذا العام، لا يتعلّق بالجوّ العاصف إنما بالبرودة ذاتها.. الآن بالتفكير فمن الغريب أني لم أمرض ولو لمرة حينها. لم يكن هناك مطر، ولم يكن الجو عاصفًا، كان الظلام شديدًا عدا بضع إنارات قليلة بيضاء وأخرى صفراء كنت أفكر أنه ليس من المجدي استعمالها كإنارة خارجيّة.. كنت أهرول والسماعات في أذني، أستمع لصوت أنفاسي، وكانت يداي باردتين، لكن حرارة جسدي مرتفعة بسبب الركض والبرد معًا، وكنت أتوقف أحيانًا بسبب الدوار الطفيف، وأشعر بقدمي تلسعني، لاحقًا اكتشفت أن الحذاء كان يجرحني ولم أكن منتبهة.
أعتقد كان هذا أفضل أسلوب لتفريغ طاقتي السلبية آنذاك، والأهم من كل ذلك أنه لم يكن هناك أيّ أحد ولم يكن هناك أيّ حديث أو صوت أو كائن حيّ، كما لو أني لوحدي في هذا العالم كله، عدا بعض الظلال والأعيُن التي توهّمت وجودها آنذاك.
-الرئيس الرئيس الرئيس.. إنه دائمًا على لسانك، لكن بما أنه ساعدك على الإيمان بالناس، فسأسمّيه رجل المهمات الصعبة.
-ليست الفكرة في الإيمان بقدر الثقة، يمكنني أن أؤمن بالناس لكنني أستصعب الثقة بهم.. لقد علّمني الرئيس أشياء كثيرة، ولم أفكّر قط بتجربة شيء مما رُشدتُ إليه أو بالنظر حتى، كنتُ أولي وجهي إليه دائمًا.
-هذا حُمق.
-وماذا عنك؟ ألا تملك قدوة أو معلمًا؟
-هاه.. لا أؤمن بضرورة وجود واحد، أستطيع المضيّ لوحدي.
-لقد كنت أرى ذلك أيضًا، لكنك ما إن تحصل عليه، ستغدو نظرتك للحياة مختلفة حقًّا.
-لماذا لا تكون مرشدي إذًا؟
-أنا؟ أكون مرشدًا؟ لك أنت؟ توقف عن المزاح، لستُ أجيد منح نفسي شيئًا ناهيك عن منحه للآخرين.
-ومن قال أنّ قدرتك على منح الآخرين تتوقف على منحك لنفسك؟ يمكنك أن تعطي وتتمنى ذاك الذي في يدك، لكنك لن تحصل عليه أبدًا، ولا يكمن ذلك في الرغبة، الحاجة تحكي بصوتٍ أعلى دائمًا.
-وأنت! هل يمكنك أن ترشد أحدهم؟ ستفهم الآن ما أشعر به.
-يمكنني، يمكنني، إرشادك لكلّ الأشياء التي علّمك الرئيس إياها والتي لم يفعل، فقط ولِّ وجهك إليّ أنا.