التقطها بين ذراعيه مترنحةً من كثرة الشراب، حاول إبعاد الكأس عن يدها لكنها تشبثت به كطفلة غاضبة تريد دميتها، مرت عدة دقائق وهي تجاهد لإستعادة إتزانها.
تجرعت آخر ما تبقى بالكأس مرةً واحدة، ومن ثُمَّ ألقته بعيدًا وهي تصيح بأعلى صوتها بكلمات غريبة تُصاحبها ضحكات هيسترية.
حاول إِمساك يدها لِيغادران المكان، لكنها ابتعدت مراوغة بينما تتمايل بطريقة عجيبة مع الموسيقي الهادئة، سكنت لوهلةٍ ولمعت الدموع في عينيها مختلطة بتيه:
-لماذا لم تحبني هاا؟
نظر إليها ببرود ولم يتحدث، لتكمل باستهزاء:
-ههه ستصمت كالعادة، وما الجديد!؟
توقفت عن الحديث لبرهة وهي تضحك لتكمل:
-حسنًا، لِما تكرهني إذًا؟
أدار وجهه للجهة الأخرى وتأفف بضجر:
-أنا لا أكرهُكِ.
ضحكت فريدة باستهزاء وهي تمسك بكأس خمر آخر لتفرغه بجوفها للمرة العاشرة، فاض به الكيل وتملكه الغضب فأمسك الكأس من يدها وألقى به بعيدًا ليدوّى صوت تحطم شديد.
ومن ثُمَّ أمسك يدها بقوةٍ، وهمَّ أن يغادرا المكان الذي خلا من الناس في هذا الوقت المُتأخر من الليل.
باغتته بسحب يدها بشدة وعادت لِداخل الملهى حيث الكأس المكسورة، جلست جوارها القرفصاء بهدوء بينما وضعت يدها أسفل ذقنها، وعمَّ السكون المكان مرة واحدة.
عاد خلفها وهو يلعنها بِسره لكن لوهلةٍ توغل الخوف داخل صدره طارقًا جدران قلبه بعد أن رأى هيأتها المخيفة تلك، شعر بالريبة من هُدوئها الذي لم يعتده.
اقترب منها يجلس على مقربةٍ منها ثانيًا ركبتيه، يراقب الدموع ترسم طريقًا على وجنتيها بينما تحملق في الكأس بغرابة.
لانت ملامحه القاسية قليلًا وهو يرى الدموع تملأ مقلتيها، أخرج آدم نفسًا عميقًا وسألها بنبرة شبه متزنة:
-فقط أخبريني ما بكِ؟
أضحت ملامحها كملامح امرأة غريبة تتبسم كمجنونة، نظرتها العجيبة للكأس المُحطم، طريقة جلوسها، مراقبتها له، أجابته بهدوء مرعب:
-أترى هذا الكأس الذي كسرته منذ قليل ولم تبالي به؟!
لم يتحدث لِتكمل وعينيها لم تتزحزحا من على شظايا الزجاج:
-انظر كيف كُسر الكأس بعد أن كان في أبهى حلته، هكذا فعلت مع قلبي.!
باغتته بإمساك يده في حركة سريعة، تضعها على قلبها وعينيها المغروقتين بالدموع لم تزالا عن مراقبة عينيه:
-هل تشعر بشيء؟ هل تسمع دقاته؟ وإن كنت تسمعها انظر كيف يخفق والبرود يغلفه! لماذا نبذتني بهذه الطريقة؟ أتيتُك وقلبي يجهل الحب، أمسى بريئًا وصافيًا، علمته الحب ومن ثُمَّ دهسته بلا رحمة!
نبذت فريدة يده وحولت النظر لِكفها، علت وجهها ابتسامة ساخرة:
-أنا من أعطيتك إياه بيدي، أنا السبب في كلّ هذا، أصبح قلبي عقيمًا بعد حبك، الخوف يحيطه من كل مكان، باتت رهبته أن يبذل مشاعره خوفًا من أن يُخذل مجددًا.
في وسط الزحام بحثت عن يدك، كالمغيبة عن العالم أبحث عن وجهك في وجوه المارة، عن ذلك الشخص الذي أحببته لكن لم أجدك، حتى هُديت إلى عابرٍ أمسك يديّ ومسَّد عليها بحنو وهمس جوار أُذني
" كنتُ أنصح جميع من مرّوا بحياتي أَلا يُحبوا بصدقٍ فقط خوفًا من تلك النظرة في عينيكِ.!"
تقطع قلبه لبكائها، لم يستطع منع نفسه، فمدَّ يده يمسح دموعها وهو يُعاتبها:
-حذرتكِ من الاقتراب يا فريدة، أخبرتُكِ أن الشخص الماثل أمامكِ الآن قد استهلكه الحب في حياته، مرَّ قلبي بتجربة حبٍ لا يتمناها أحد.
أحببت امرأة تركتني في منتصف ساحة القتال بمفردي، حتى أضحيت أبحث عنها في عيون المارة كالمجنون!
ضمت يديها لصدرها ورفعت عينيها متبسمة بألم:
-وأنا يا آدم، ما هو ذنبي للوقوع في عشق رجل غير صالح للحب!؟ أتعتقد أني سأختبرك قبل الوقوع في حبك؟
ماذا فعلت لأقع في عشق رجل أذبل قلبي بعد أن أحبه؟ بحجة أن قلبه مازال معلقًا بأخرى..
مسح على وجهه وحاول تمالك نفسه، هبَّ واقفًا من مكانه وأردف:
-أشعر بقلبكِ وكيف حاله بعد أن أحب بكل طاقته وبذل مشاعره في سبيل حبٍ من طرفٍ واحد لم يُكتب له أن يولد وأُجهض في مراحله الأولى.
1. انظري لِحالكِ بعد أن أحببتِ، كُفي عن كتابة المزيد مِن الشقاء لقلبكِ يا فريدة، سلام حتى ألقاكِ مجددًا.
ثم همس بصوت خافت:
-وإني أرجو ألا يُكتب لنا اللقاء مرةً أخرى تفاديًا لتلك الطعنات المؤلمة في قلبينا..
شرعت في الوقوف واستجمعت كامل قوتها وهي تنظر له بينما لم تخلو عينيها من تلك النظرة، مسحت دموعها، ثم مدت يدها تصافحه وهي تبتسم بِكلّ عفوية برغم الألم الذي يتغلغل صوتها وكلماتها:
-ليتني لم ألتقيك وتأخرتُ ذاك اليوم، أريدُ اكتساب فرصة أن أعود وأصيغ ذلك اليوم مجددًا، أتأخر ولو لدقيقة واحدة.
لو كنتُ أعلم أنّه في ذاك اليوم وتلك الساعة بالتحديد سأذوقُ مرارة ألمٍ يكفي دهرًا بأكمله ما كنت لأستقل القطار وكأن شيئًا لم يكن، إلى اللقاء يا آدم وصدقًا لن تراني ولو بعد حين.
****
مرّ على ذاك اليوم سبع سنوات وثلاثة أشهر وعشرون يومًا، لم أستطع نسيناه برغم كلّ شيءٍ، غادر يومها وترك قلبي مشوهًا يهاب الاقتراب من الناس.
الخوف الملازم له من العلاقات والحياة الإجتماعية، ليُمسى في النهاية وحيدًا، وجدتُ نفسي أخلو إلى أوراقي وقلمي أشكو إليهما حالي.
لم أعد أريد التعرض للخذلان مجددًا بأي شكل، لا أريد الاقتراب من أحدهم لأكتشف في النهاية أنّه لا يستحق الثقة بعد كمّ المشاعر التي سأكون قد بذلتها في سبيله لتذهب سُدى في النهاية!
بعد وفاة والدتي منذ عامين أصبح منزلي يخلو من البهجة، كانت السبب الوحيد الذي كنت أُجاهد لأَحيى من أجله، باتت حياتي هادئة للغاية من بعدها، اعتزلت الشرب بصعوبة، تغير كلُّ شيءٍ بيّ.
كفتاةٍ عشرينية هرمت، آوي إلى كتبي التي أصبحت ملاذي مذ أن تركني محطمة، بات قلمي يذكره في كلّ رواية أكتبها، أخطُ الاشتياق الذي يلفح قلبي له في صورة كلماتٍ لا تعد ولا تحصى.
مازال قلبي يحبه للأسف، لكن عقلي يقنعني كلّ فترة أنّها هلاوس فقط لا أكثر، أهو تكبر أم ماذا؟ لا يهم أيًا يكن..
توقفتُ عن التفكير الذي كاد يفتك بيّ مع صوت فتاةٍ مراهقة -تبدو في السادسة عشر من عمرها على حدٍ ما- تُمسك بروايتي وهي تبتسم ببراءة طالبةً توقيعي عليها.
عدت بعقلي للواقع من هلاوسي البلهاء لأتذكر أنّي مازلتُ في حفلة التوقيع، حاولت رسم ابتسامة على شفتيّ، لكن يبدو أنّ ملامح وجهي قد تناست كيفية التبسم منذ فترةٍ كبيرة..
-ما هو اسمك عزيزتي؟
-فريدة.
توقف قلمي لوهلة وتذكرته، عندما كان يخبرني كم أنّه يعشق اسمي وكم يتمني أن يرزقه الله بفتاةٍ في شبيهة بيَّ ليُسميها تيمنًا بيّ، جال شريط ذكرياته بخاطري.
فتنهدت بثقل وأكملت التوقيع ومن ثُمَّ أعطيتُ الرواية لها وأنا أقول بعملية:
-أتمنى أن تكون الرواية عِند حُسن ظنكِ يا جميلتي.
نظرتُ لساعتي سريعًا، لأتبين أنه قد مرّ الكثير من الوقت دون أن أشعر بين التفكير بِه وتوقيع الكتب للقراء وسماع آرائهم الرائعة.
كدت أُغادر فأردفت الفتاة بسرعة وهي تقول بعفوية:
-سيدتي، هل يمكنكِ تكتبي إهداء هذه الأخرى لشخصٍ ما؟
تبسمتُ قائلةً:
-بالتأكيد، ما اسمه؟
-آدم.
توقف الزمن لبرهة، هذا الاسم الذي يتردد صداه بين ثنايا قلبي منذ سبع سنوات كاملة لكن لم يحدث وأن سمعته أُذناي بطلاقةٍ هكذا، وها قد سمعه قلبي من جديد، أفقت من شرودى سريعًا بعد أن لاحظتُ علامات الغرابة قد اعتلت ملامح الفتاة.على أية حال بالتأكيد ليس الوحيد الذي يحمل ذاك الاسم، ابتسمت لها وأنا أُعطيها الكتاب بعد أن أنهيتُ توقيعه، استدارتُ مغادرة، لكن توقفت قدماي عنوةً وأنا أسمع ذاك الصوت المألوف بتمعن.
-فريدة هيَّا يا عزيزتي لقد تأخرنا.
تصلبت قدماي، الصوت ذاته، إنّه هو!!
****