سادية تحكمني

18.5K 50 34
                                    

بدأ الأمر بعرض، كنت في الثامنة، أعطيك مصروف جيبي يا ندى، وتصبحين حبيبتي.

ندى كانت في التاسعة، أطول مني، أطول من فتية الحي جميعا، وأسرع منهم، سمراء نحيلة، بعينين كعيني قطة. رأيتها مرة تضرب مروان ابن جارنا، تشد شعره وتلطمه بقوة، حينما حاولت مساعدة الفتى الساقط لطمتني أنا الآخر، ثم صفعتني، وقعت في حبها فورا.

رمشت بعينيها إذ تفحصتني، كورت قبضتها كمن ينتظرني أن أسحب عرضي، أن أطلق ساقاي للريح مبتعدا، وحينما أعدته بنفس الجدية، بنفس الحماس، مدت يدها، راحتها ممدودة. لم أكذب خبرا، دسست يدي في جيبي وأخرجت الدريهمات التي وضعتها لي أمي صباح اليوم في حقيبة طعامي.

بعد اليوم الذي حاولت فيه تخليص مروان من بين براثنها، كنت قد تعمدت أن أتدخل في كل مرة أراها تشاجر أحدهم فتضربه، لتضربني أنا الآخر. لابد وأن ذلك تسبب في تكوين الفكرة الخاطئة عني. فالواقع أني ما كنت أجرؤ على إغضابها شخصيا، أو الاقتراب منها، وذلك لم يترك لي سوى خيار الانتظار وتحين فرصة استفزاز فتى آخر لها للتدخل حينها.

ونجحت خطتي تلك لبضع أسابيع مرت كالخيال، جميلة صافية لا يتخللها سوى بضع كدمات كنت أتحسسها بما يشبه الوله في كل ليلة، ابتسامة بلهاء على شفتي إذ أعاود تذكر أحداث اليوم التي انتهت بحصولي على ما ارتضيه. ثم حدث ما كنت أخشاه حينما أيقن فتية الحي أنهم ليسوا بند لها، فتوقفوا عن تحين فرص نزالها لإخضاعها مكتفين بتجاهلها.

مصابي حينما أدركت ما حدث كان عظيما، وتملك مني الحزن بضع ليال وأيام قضيتها مكتفيا بمراقبتها من بعيد، في باص المدرسة وباحة المدرسة، ونافذة فصلها أحيانا، وصل بي الأمر أن حاولت التسلل من فوق سياج منزلها. ولما رآني أبو مروان وسلمني لأبي الذي دافع عني في وجوده والقمني علقة ساخنة حينما غادر، أدركت أن وقت التحرك قد حان. لم يترك أبي علامات على جسدي، لكن الآلام التي سببها لم تكن بلذة آلام ندى، ولا تركت في نفسي الشعور نفسه.

استجمعت شجاعتي في اليوم التالي، أردت محادثتها في الطريق للمدرسة لكنها جلست في باص المدرسة مع مشرفة الباص، ثم انتظرتها في الباحة فخرجت بين فتاتين من فصلها، كانت تخرج من البيت لتلعب أمام الباب مع ثلاقة من إخوتها. حاولت إيجادها وحدها لمرة ففشلت، كانت تصعد الباص قبلي وتصل بيتها قبلي في طريق العودة، لم يكن هناك من طريقة للاقتراب. حينما سدت كل الأبواب أمامي قررت التمارض والتهرب من المدرسة لأنتظرها أمام باب منزلها حينما تعود من المدرسة، ونجحت خطتي تلك.

أخذت ندى الدراهم وهي تنظر في عيني. أقنعت نفسي حينها أني الفريسة التي تراقب صيادها كمن لا يصدق حظه حينما اختارته لاقتناصه من بين الأرانب جميعها، بدل كوني الفريسة التي أغوت صيادها.

لم يشفع لي كوني حبيب ندى في الشهور التالية، فيوم تأخرت عنها بعد أن تواعدنا أن نلتقي بعد صلاة العيد وراء بيتها لأجلب لها الحلوى التي وعدتها بها، عاقبتني بصفعة. ويوم تغيبت لثلاث أيام عن المدرسة، قابلتني في اليوم الذي عدت فيه في الباحة فشدت شعري وضربت يدي حينما قدمت لها مصروف يوم واحد، رفعت أصابع أربع حينما حدقت فيها متعحبا، لا قوة لي للرد، أريد مصروف أربع أيام.

انتظرها في اليوم الثاني للعيد حاملا ضعف كمية اليوم الأول من الحلوى وعيديتي، وجئتها بمال سرقته من محفظة أمي حينما رفضت محادثتي في المدرسة لأسبوع كامل بعد غيابي.

أحببت عقابها كما أحببت ضحكتها، بل أشد وأكثر. أحببت تجاهلها لي النهار بطوله بعد استيلائها على مالي، أحببت تهكمها القاسي إذ واجهتها بواقع أنها حبيبة مزيفة، لا تقبل حتى إن اطبع قبلة على خدها، كيف ضحكت حتى بانت نواجذها ثم هزت رأسها بما يفيد أني مهرج ساذج.

لاحقا أمسيت القطة الشريدة التي نسيها أصحابها حينما راقبت سيارة والدها السوداء إذ قادها بعيدا وهي في المقعد الخلفي. نظرة هي كل ما حصلت عليه، لا وداع ولا رسالة.

سادية دبيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن