القِسمُ الأول: نقطةُ الصفر

65 5 27
                                    

ظلامٌ حالكٌ لا أكاد أرى بهِ شيئًا لولا ذاك الضوء الخافت المتقطع،جفنٌ يرتفع ويليه الأخر على صوت هدير المحركات،على ما يبدو بأني داخل مقطورة قطارٍ صَخِبٍ يرافقه ألمٌ اغشى بصيرتي،لا تكفُّ التساؤلات تراودني بلا أجوبة لها.

لا اذكر شيئا،يغشيني البردُ طريحًا ارتجف، مضجعا بجراحيَ بين أمتعةٍ وصناديقَ خشبية بلا حول ولا قوة،بائس ازحف بجسدي النحيل الخاوي لأسند ظهري،صُداعٌ طنانٌ داخل رأسي منعني من أن أحلل الوضع،أريد الكلام لكن لكلِّ كلمةٍ تخرجُ من فمي مطرقةٌ من الصداع تهمش رأسي،شُتِتَ ذاتي، وتعالى صوت أنفاسي،تسارعت دقات قلبي شاعرًا أن روحي تغادر جسدي ببطء،لقد إنتهى أمري لولا سقوط يدي على شيء أقل برودة من ارضية القطار الصدئة.

رحت اتحسسه بأناملي وعلى ما يبدو أنه غلافٌ جلدي،انه كتاب،لا استطيع رؤية عنوانه لكن اشعر بالألفه تجاهه،لا اعرف السبب ولا استطيع التفكير به حتى إن أردت،وضعته بين يديَّ كطفلٍ مرميٍّ على قارعة الطريق ولم يبقى بحوزته شيء يذكر.

ها أنا ألملم نفسي متحملًا آلامي خائرَ القوى إلى ان يتوقف هدير المحركات اخيرا ويصل القطار إلى محطته المجهولة،أسمع أصوات خطوات النازلينَ تباعا من مقطورة الركاب،بقيت متيبسا إلى ان سمعت ما يبدو على انهم العاملون على النقل،سيباشرون بتفريغ الحمولة،يسحب العمال بوابة المقطورة وهي تُصدِر صوتَ صريرٍ يزيد صداعي ألما إلى أن أرى نورَ الصباح.

أستغرقت عدة ثوانٍ لأجمع شتات نفسي وحتى أعتادت عيناي على الضوء،حتى لاحظني العمال راحوا يتجاحفون علي وها أنا في مرمى بصرهم بعد أن دخلوا المقطورة،غير قادرٍ على التحرك وبالكاد استطيع تمييز ملامحهم برؤيتي الضبابية.

سألني رجلٌ ضخم البنية خفيف الشعر وحليق اللحية بصوته الخشن كأنه احد الجنرالات عن ما إن كنت أستطيع التحرك بلكنة الانجليز فأومأتُ برأسي نافيا،يأمر الرجل اثنين من العمال برفعي ما إن يهما بذلك حتى تتلاشى رؤيتي وافقد وعيي ببطئ .. برؤيةٍ تحيدُ إلى السوداوية.

استيقظ لاجد نفسي كالمومياء مضمدًا في بيتٍ لا اعرفه لأرى ذلك الرجل ضخم البنية داخلًا بابَ الغرفة قائلًا لي بأن الزم السرير ولا اتحرك،إلى أن يأتيني بالطعام فعلى حسب وصفه ابدو كمن لم يعرف للطعام طعمًا منذ أشهر.

عاد الرجل حاملًا صينيةَ بها اطباقٌ وضعها على الطاولة بجانب السرير،ناولني طبقًا من حساء الدجاج قد بدأت آكله بشراهة نبهني الرجل أن آكل رويدا لكنني بدأت كالحيوان الذي اصطاد فريسة لم يصطد مثلها منذ سنوات.

بعد أن انهيت طعامي وشعرت بأني قد دخلت النعيم قبل موتي يهم الرجل قاتلا لحظات الصمت بيننا قائلا«اذا يا نصف الجثة ماقصتك؟».
مددت يداي على مد بصري وقلت بنبرة ممزوجة ببعض الخوف«لا أدري».
قَطّبَ الرجل جبينه مستغربا وردد كلامي،نظرت إليه قائلا «لقد نسيت».

شظايًا ضائِعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن