القِسمُ الرابع: نهايةُ الكتاب

10 2 0
                                    

لم يكن لعائلتي حاجةٌ برجلٍ يعينهم ماديًّا؛ فرغم وفاة والدي المبكرة بعد نزاع مع الكوليرا عملَ أخي الأصغر كأستاذٍ جامعي وتجنب الخوض في مسائل التجنيد على عكسي، لم أجد رغد العيش في حياةٍ روتينية هنا في مدريد ولم أردها أساسا، وكانت مهاراتي تكمن في العسكرية وليست بينَ جهابذة المفكرين.
بلغتُ عقدي الثالث بعد خبر العودة من حرب الفلبين حيث لم نستقبل كأبطال حرب، بل كرجالٍ متخلى عنهم تدفعُ بهم إسبانيا الجريحة إلى مستعمراتٍ بحروبٍ خاسرة؛ فعدنا ولم نجد موطننا كما هو وبعضنا قد هجرته عائلته مسبقًا تاركةً إياه في ضياعٍ ليعيش كغريقٍ يتمسك بقشة.

استيقظتُ على صوت براجمٍ تطرق الباب،ليقول لي موظف الفندق بأن وقت الفطور قد حان، فأفتح له الباب آخذًا منه كأس القهوة لاترك الباقي. تكمن جماليات القهوة بترك إدمانها يتخلل جسدك ليجعلك ضعيفًا مالم تتذوقها تمامًا كالنساء؛ لا تستطيع العيش بدونهن.

أنزلُ متمشّيًا في الأحياء الضيقة المجاورة للفندق، وصولًا لذلك النهر الذي يعكس زرقة السماء فيه وظلمتها المطلِّ على نصب ألفونس الثاني عشر المزين أسفله بالملائكة البيض والسود، ليعلوه ممتطيًا حصانه في تحفةٍ من الفن الفروسي الذي كان السيد خوان سيرغب في رؤيته. اعتدتُ زيارة ضفاف النهر في صباي وأحيانًا استقلال قاربٍ يرسلني لمنتصفه، وجدتُ فيه بعضًا من البهاء الذي ينسيني حالة الفوضى التي نعيشها.

أسير عندَ المطلِّ باحثًا عن كرسيٍّ شاغر، لم يكن هناك إلا واحدٌ يجلس عليه رجل ضخم يبدو عليه أنه اجنبي، استأذنه بالجلوس فتمر لحظات الصمت إلى ان يقطعها قائلًا وهو يشير نحو التمثال:

– الرجال العظماء يصنعون أوقات الرخاء، التي تصنع الرجال الضعفاء، ثمَّ الكوارث.
– اليست الكوارث تصنع رجالًا عظماء؟.
– ليس قبل أن تنهار الحضارة، اليس هذا ماترونه هنا؟. قال وهو يعرض علي سيجارة كوهيبا
– هذا مانراه في كلّ مكان، عاجلًا أم آجلا ستفكك الحضارات نفسها وتعيد تركيبها. رفضتها
– الأمم مثل هذه السيجارة، تصنع من مصدر حياة لتحرق نفسها بقتل من يدخِّنُها. قال وهو يقهقه
مضت الدقائق التالية وهو ينفث دخان سيجارته بنظرات فاترة نحو النصب، إلى أن استأذن قائلًا لي بأن لا أتأخر بالخارج فالعاصفة قادمة.

وصلتُ منزل العائلة المتواضع اثناء الغروب،مبنى مكون من طابقين يبعدُ ١٦ كيلو مترٍ عن الفندق،اترجلُ من سيارة الألفا روميو التي عرض اعارتها علي خوسيه اليوم فلم أرفض عرضه،كان الجو ينبئ بعاصفة قادمة تلمح لي بأن لا أفكر في العودة للفندق،أدخل البوابة الحديدية لأطرق الباب ببراجم يدي،وها هي أمي تفتح المزلاج لترى من بالخارج وقد بدا العمر يحدث عوامله عليها فاحتضنتني قائلة لي «كان من المفترض أن تكون هذه الزيارة منذ سنة».

شظايًا ضائِعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن