لقد تسائلت، عندما كانت أمي تغطي أذناي ليلا وتهمس بالدعاء، هل هي لا تريد مني رؤية الألعاب النارية؟
"سينتهي، سينجدنا الله"
كان الصوت قويا، مدويا، ولم أسمع بعده ضحكات قط، كان قبيحا .
وكانت امي تبكي .
"أمي لا تبكي" لم أكن أعلم لما تبكي امي في يوم العيد، ولما لم اسمع الضحكات المعتادة بعد الالعاب النارية، ولما هي تغلق اذناي..
او ربما كنت اعلم.
"أمي، لا تبكي، الله لن ينسانا" قلت، محاولة مسح دموعها، والتي بدت كبيرة جدا بالنسبة ليداي، غزيرة حارقة لم يقدر كفاي الصغيران على كفكفتها، بكيت، تعالت اصواتنا بالصراخ مع كل إنفجار.
كانت هناك الكثير من الدموع، لكن لم تكن هناك أياد كافية لمسحها.
"أمي، اين أبي؟" سألت من بين شهقاتي، وأجابتني امي في صوت منكسر " سيأتي وسنهرب من هنا، سياتي قريبا"
فكرت في أحمد، هل سيهرب معنا؟ وآمنة الصغيرة، وعائلتهم..وجدتي كيف ستركض؟ وجدي، هل سيحملها ويركض بها مثلما حكى لي عندما فعل في يوم زفافهما نحو الحقل؟
إسترقت النظر نحو النافذة، ثم تشبثت في امي اكثر باكية.
لقد كان هناك الكثير من الحطام، ولم اكن اكره شيئا أكثر من رؤية الحطام وانقاض البيوت ..
"يارب" دعوت "يارب لا تجعل بيوتنا حطاما"
دعوت، دعوت كثيرا يومها كما لم افعل من قبل .
دعوت من كل قلبي..
تطلعت للخزانة المفتوحة على مصراعيها، وللمرآة، فرأيتنا، رأيت أمي التي تتشبث بي مع كل صاروخ ينزل، مع كل صوت يقترب، ورأيتني ابكي متشبثة بها اكثر، وكانني اريد ان ادخل في قلبها واركن فيه، رايت دموعنا الكبيرة ، وعيوننا التي تلمع مع كل قطرة ثقيلة تنزل منها..
رأيت قلوبنا المشتعلة، ورأيت شفاهنا التي تهمس بالدعاء ولا تفتئ أصواتنا تعلوا به، رغم اننا نعلم ان الله يسمعنا، حتى ولو لم ننطق بحرف..
ورأيت في خزانتي، ملابس العيد .
وبدت هناك، وكأنها تنتظر، تنتظر ان أرتديها واتسلق شجرة زيتوننا، وأن أزور بها جداي فيدسان فيها المال والحلوى، ويحملني أبي ويدور بي، وأركض مع آمنة وأحمد، وأقطف انا وإسراء الياسمين من حديقتهم، وتضحك أمي، ونضحك نحن، ونشاهد الالعاب النارية ليلا ...
"يارب!" صرخت أمي، وصرخت معها ...
يارب ..
لما يحصل لنا هذا؟ ...تسائلت ..ونزل صاروخ، لكنه هذه المرة أقرب، وتعالت اصوات النحيب اكثر، وبدا وكانني أسمع صراخ فلسطين جمعاء مع كل صرخة إستنجاد، مع كل تكبيرة، مع كل دوي، مع كل يارب تخرج من اعماق روح امي، وكأن فلسطين جمعاء تصرخ يارب ...
يارب..."ليلى! منار! تعاليا!!بسرعة!!" صرخ أبي فجأة من اللامكان، هرعت إليه أمي، حملني أبي ولم يدر بي، ورأيت احمد مغطى بالدماء، يركض...أين آمنة؟
كنا نركض، وسمعت أبي يصرخ بشيء عن منزل جدي، وعن اشتداد القصف، عن مكان آمن للإختباء ...ألا نستطيع الإختباء في بيتنا؟ وراء الستارة حتى تجدني أمي ككل مرة؟ إنه مكان آمن للإختباء ...
كنا نبتعد، لمحت منزل إسراء، و الياسمينة، ملطخة بالأحمر .
كنا نبتعد..وسمعت الصوت المدوي من جديد، ورأيت شيئا يلمع في السماء ..
كنا نبتعد، عن منزلنا الذي أضحى حطاما، عن الأحلام التي دفنت بين الأنقاض، ومددت يدي وكأنني أريد إلتقاط شظية منه أخبئها في قلبي..
أردت القبض على اللهيب وإطفائه بيدي الصغيرتين، أردت القبض على كتبي، وملابسي، وصوري وألعابي، على حياتي وحياة عائلتي وأحبتي، أردت إمساك يد آمنة الدامية الصغيرة من بين الانقاض، أردت القبض على بيتنا، وعلى أحلامنا، وفلسطين كلها وتخبئتها في قلبي، لعله يكون مكانا آمنا للإختباء..
لكن كفاي لم يلتقطا سوى ورقة مشتعلة وشظية صغيرة، ورأيت، عندما كنا نركض مبتعدين عن بيتنا الحبيب، شجرة الزيتون التي لم أفتئ أتسلقها تحترق ..
"أبي!" صرخت أمي، وركضت لتحتضنه..
"أين أمي، أبي، أين امي؟ امي!!"
أين جدتي؟
"جدتي؟" صرخت، ولم أتلقى إجابة سوى النحيب ..
لم يكن جدي يحمل جدتي نحو الحقل، وشعرت، لوهلة، أو بالاحرى فهمت، انه لن يفعل ابدا، وأن رائحة الحلويات التي تعدها وهي تردد أشعارا بصوتها الجميل، لن تعود أبدا..وبدت لي دموعهما بثقل الصواريخ التي لم تتوقف، ورايت جدي، لاول مرة، يبكي .
واصلنا الركض، أو بالأحرى الهرب، كنا نهرب، نسلك منعطفا مألوفا، منعطفا أمشي فيه كل يوم، وأحفظه مثل كفي يدي،
كنا نسلك طريق مدرستي..
ورأيتها هناك، وعلى وجوه أطفالها مشاعر لم تعهدها هي التي لم تعرفهم سوى ضاحكين، ورن بين ممراتها صدى لم تألفه، لا يشبه شرح درس، او صوت التلاميذ وضحكهم وثرثرتهم او رنين الجرس الذي اعتادته، واعتدته انا، حتى عدت لا اعرف اين انا ..أهذه مدرستنا؟
"منار" إحتضنني جدي، مسح على وجهي، ونظر لي
"أريد منك شيئا ياحلوتي الصغيرة"
هززت رأسي، وعاد هو ليمسح دموعي بيديه المرتجفتين..
"جدي.." قلت ولم يرد علي، اكتفى بكفكفة دموعي ثانية، ولم يلبث حتى قال :"مدي لي يدك"
تطلعت نحو يدي التي كانت تقبض على الشظية بقوة
"مالذي عندك، منار؟"
"شظية" فتحت يدي، لكنني لم اجد شيئا، وتسائلت، مالذي قبضت عليه يا ترى؟
مسح جدي على يدي، أمسكها ودس فيها شيئا وأغلق عليه كما يفعل كل عيد، وقال بصوت متهدج:" هديتي لك يا منار، يا صغيرتي، هذه هديتي لك هذا العيد"
"ماهي يا جدي؟"
"إنه الأمل، إنه حلم، إنه الحلم الذي عليك العيش لتحقيقه، والدعاء كل يوم لأجله، منارتي، "
بدت لي مهمة كبيرة جدا، فقلت" ولكن يداي صغيرتان يا جدي"
إبتسم جدي ونظر في عيناي" لكنك كنت تحملينه بالفعل، ألم تقبضي عليه بين يديك؟"
صحيح، جدي محق ..
لقد كنت أقبض على حلم تحرير فلسطين، لأن شظية الأحلام تلك، كانت آخر ما تبقى لي من الأطلال .أعان الله إخواننا في فلسطين ونصرهم، قلوبنا معكم
أنت تقرأ
الشظايا من بين الأطلال
Spiritualسنلملم شظايا أحلامنا، وسنعيش على شعلة الأمل، حتى نعود أحرارا.. حتى تعودي يا فلسطين..