٩-لَيْسَ بَيْتًا.

79 21 7
                                    


كَآبةُ كلِّ ما يحيط بنا، وظلمةُ السّماءِ، وقلوبنا الّتي بلغتْ حناجرنا من هَوْلِ ما رأينا؛ كانت كلَّ ما يرافقنا في طريقنا إلى المجهولِ، كانت عجلات السيارة تتدحرج على الطريق المُترِبة، ومنها إلى المعبّدة، وأعيننا تعكس في دواخلها خيالات البيوت المحترقة، ودخان الصواريخ المتطايرة.

صفّرَت الريح بقربي قبل أن أركب السيارة، وكأنها تخاطبني برجاءٍ أنْ: «ابقي هنا، لَا تذهبي أنتِ أيضًا، لمن سأحكي حكايات من أقابلهم؟».
تجاهلتُ نداءها، وركبتُ السيارة، التي أخذت عجلاتها تدور وتطوي الطريق، التي تطوينا قبل أن نطويها، وأزواج العيون الخمسة في سيارتنا، لي، ولوالدَيّ، وأختَيَّ؛ تفرغت للنظر لبرزخٍ ما، تركناه خلفنا في تلك الجنة، التي فيها مولدنا، ومنبتنا، وملعبنا، مأكلنا، وكل حكايتنا...

طيور الهدهد، وعصافير الجبل البريّة، البنيّة التي تأتي لتزقزق كل يومٍ صباحًا فوق سقف المنزل، فتزعجني، وتوقظني كل يوم من الصباح الباكر.

الحَاجّة جازية التي تجلس في ساحة بيتها؛ تكسر الخبز اليابس بالمطرقة لنعاجها، فيسمعها كل من بالحي، الطريق المتعرجة المليئة بالحصى، التي تؤدي للمدرسة، والتي جُرِحتُ فيها عشرات المرات، شيخ المسجد العصبي، بائع الخضراوات الغشاش، صاحب الكعك الدافئ، معلمة العربية الحنون، خبز زوجة عمي في العيد، رائحة الحطب المحروق في نسيم الصباح، بيتنا الصغير؛ كل ذلك بقي هناك، في نهاية الأفق، بعيدًا عن عيني، ويدي، وإحساسي...

تستمر العجلة بالدوران، والدوران، تقطع المسافات، وتبتعد عن قطع روحي، وتبتعد عن المدن، أو المدن من تفعل، أغمضتُ عينَي، لِيخْتفِ العالم، وضجيجه الذي أخذ يدوي في أركاني منذ أيام.

البيت، وكل الدفء أخذ يختفي، منذ اقتحمت كتلة الحديد والنار المسماة غراد حياتنا، قبل مدننا، وبحرقها بيت الأرملة وابنتها الرضيعة معه، تحت الركام، تاركًا صرخاتها تذوي وحيدةً أمام النار، وفوق الرماد.

ارتعشتُ قليلًا حين أيقظتني أختي، مشيرةً لي لما شرحت أنه بيتنا الجديد، ولكنه ليس بيتًا، كان مبنًى كبيرًا، بساحة كبيرة، وفيه عائلاتٌ كثرٌ، وعليه لافتةٌ كُتِب عليها: ‹مدرسةُ...›.

.تمت.

نَزِيف..«مكتملةٌ»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن