٤-ليس أخي.

134 29 17
                                    


كان يطالعُ بهدوء ظهْرَ أمّهِ المنحني، ويستمع لصوت أنينها المجروح، وتحسُّبَها، كان يُناغم بكاء الجارة بالأمس، إلّا أنّ أمّه تبكي على من فقدت منذ سنتين، أما الجارة فعلى من فقدت منذ يومينِ.

قامَ من أمامها ماشيًا بضجيجِ عيونٍ ونفسٍ، ملتحفَيْنِ بصمتِ الجسدِ. تسلّل إلى عينيه خيالٌ جالسٌ على حافة درجة بحائط بالزقاقِ البني الضيق، المظلم، كان مظلمًا رغم أنه الصباح، كان خيالُ أخيهِ قد اختفى من على الدرجة، فورَ أن رمش، تهافتتْ تنهيدةٌ للخروجِ من فمه، إلّا أنّها لم تكتمل؛ لأنّه قطعها جالسًا على الدرجة.

تذكر الهيئة المتفحمة التي رآها تتلحف الأبيض، كان يظن أنه ببلوغه السادسة عشرَ؛ فإنه سوف يفهم كل شيء، ولكنّه لا يزال محتارًا من الجميع؛ لتصديقهم أن كومة الفحم تلك هي أخوه! كيف لدفئ صدر أخيه أن يتحول إلى عظم يكسوه صديد أسود؟ وإلى كومة عظام أشبه بعصي نارٍ تآكلت بعد انطفائها، لا تحوي سوى أحشاء مشوهة؟ كيف؟

كيف لتلك البسمة العذبة، والصوت الرنان؛ أن يصبحا شيئًا لا يستطيع تذكر شيء يشبهه به؛ سوى بقطع نحاس صدئة! والرأس! هل يمكن وصفه بالرأس؟ أم بحجر صوان خرج من الموقد؟
بحث ولم يجد في تلك الفجوتين لا عينين، ولا بندقًا كلونها!

كان ذلك يوم أخبروه أن أمر اللهِ قد تم بإعادة روحٍ أخرى إليه، وهي روح أخيه. يريدونه أن يصدق هراءً! كان قد كلمه منذ بضع ساعات فقط، أيُّ نوعٍ من المزاح كان ذاك؟

تبع والده يومها للمستشفى، لم يسمح له بالدخول إلى غرفة كتب قرب بابها "الْمشْرحةُ" بحجة أنّه قاصر، تساءل بينه وبين نفسه، عما الذي سيفعله أخوه في غرفة كهذه؟ ما عنده فيها؟ هل مات أحد أصدقائه؟ وحتى لو حدث؛ عندما توفي ابن عمه لم يعد من الجبهة ليراه، لماذا سيعود الآن إذًا؟

وقفَ بعيدًا، ثمّ التفتَ ناحية النافذة، ورتب شعراته السوداء، ومسح على وجهه الأسمر، بيديه النحيلتين بهدوء، نظر إلى جسده النحيل، هو يأمل أنه قد زاد بعض الوزن، حتى لا يعايره أخوه بنحفه.

بقي واقفًا هناك، حتى رأى انعكاس أبيه يخرج من تلك الغرفة واضعًا يديه على وجهه، ومعه الرجل الذي منعه من الدخول، اقترب قليلًا، وعندما ابتعد الرجلَان، قفز نحو تلك الغرفة، ورأى مالم يره لا في كوابيسه، ولا في أفلام الرعب، ولا في القصص، لم يدرِ ما كان ذلك، إلّا أن سؤالًا واحدًا سيطر على عقله، أين أخوه؟ وما الذي كان يفعله هنا؟

ترك الغطاء الذي رفعه في الغرفة الباردة من يده، تراجع إلى الخلف، واجمًا، وملامح الذهول تغزو وجهه، ركض! ركض كأن كل ما رآه سيتلَاشى عندما يركض، خالجه إحساس أنّه سيطير، تضببت الرؤية على عينيه، سرعة الريح تطرق في صدره على سندان قلبه، أحس بكل شيء يتلاشى، أنفاسه، عقله، ذاكرته، كأنّها أوراقٌ تهافتت عليها رياح مساء الخريف الباردة.

توقف فجأة، شدته قدماه إلى الأرض، هذه المرة، نظر ناحية المكان الذي هو فيه، إنّه حيّه، كان هناك خيمةٌ منصوبةٌ داخل بيتهم، وكان الباب مغطى بقماش رداء طويل، سخن صدره، وعيناه، وهمس مرتجفًا: «ليسَ أخي!».

حكَّ رأسه بكفيه، ومن ثم أنزلهما إلى حجره، وهو يراقب تلك الشابّة القصيرة المنقبّة، وهي تخطو نحوه، هو يعرف هذه القامة، وهذه المشية، إنها أخته، نادته فور قربها منه: «جسّار»
- «نعم هزار».

اقتربت منه ساحبةً يده، لتجعله يمشي بجانبها، ثم قالت بعتب: «بحثتُ عنك منذ الصباح الباكر، وأنت هنا في الدار المهجورة!».

نظر لها باستغرابٍ وغضبٍ: «ليست مهجورة، أمي في الداخل».
نظرت له بخيبة، ثم تشبثت بذراعه، وقالت: «نعم، هي كذلك، كما تريد أخي».

خطيا معًا متساندين، خارجين من الحي المنكوب.

تمّت

نَزِيف..«مكتملةٌ»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن