جمعهن العجوز حوله في دائرة مغلقة، بينما النار امامه يعلو لهيبها كلما مد عصاه السميكة بداخلها عابثاً بالحطب المشتعل، فلوبهن تخفق وجلاً ورهبةً، وعيونهن متسعة انتظاراً لبقية الحكاية عن تلك البلاد البعيدة التي تحوي شاطئا اسود نسبة الى رماله السمراء.
كل من حولها من الفتيات تغضنت جباههن دهشة مختلطة بلمحة من التقزز، بينما يسري الهمس بينهن كالفحيح مستترا بطقطقة الحطب المحترق، اما هي فقد ادركت بألفة خفية ان هناك شيئاً يُشبهها في بقعة ما على الارض، شيئاً غريباً مختلفاً لدرجة عجيبة، يثير المشلعر المتناقضة... ولونه اسمر!
حتى وان كانت رمالاً بعيدة، تكتفي بزيارات متواترة من امواج تتلمسها بين فينة واخرى؛ لتوقن بانها ليست وحيدة مثلها.
وبرغم عدم تفوهها بكلمة الا ان صاحب النار ترك ناره والحكاية ثم التفت نحوها بنظرات غامضة غارقة في حدقتيه الغائرتين، وهمس باكنته الحادة الممتزجة مع كصيص اللهب:
-رملٌ اسمو يعلوه سماء زرقاء صافية بلون عينيك يا فتاة فاحذري المختبئتين خلف القلاع، واحذري الاسوار العالية.
كل ما جال بخاطرها وقتها اطفال يعبثون بقوالب الرمل الاسود على الشواطئ يبنون بها البيوت باسوارها المرتفعة، فتأتي الامواج لتهدمها من جديد، لكنها لم تفهم مقصده، ولا نظنها قد فهمت تحذيره ايضاً!
سكت هنيهة ثم نزع نظراته عن وجهها انتزاعاً، وعاد بها الى الفتيات من حوله يمررها بينهن وهو بستكمل حديثه عن الشواطئ السمراء التي ستبهب اليها احداهن لو وقع عليها الاختيار، كلهن ناجيات الا واحدة!
فالليلة هي ليلة البركة، طقوس سنوية تختص بها بلدتهم وحدها، كل عائلة لها فتاة قد اتمت التاسعة عشرة من عمرها في شهر الحصاد لا بد ان يذهب بها وليها عند منتصف الليلة الاخيرة منه الى العجوز الذي يوقد النار؛ ليجمع الاناث حولها في الليلة نفسها من كل عام،ليملي عليهن المصير المحتوم:
- من سيفع ظل الغراب فوق ظلها منكن فستنتقل فورا الى تلك الارض البعيدة، ستعيش حياتها على الشاطئ الاسود، لن ترى عائلتها مجدداً، ولن تعود الى "داو" لكنها ستجد طريقها، ربما تتزوج وتنجب فلا تخفن هكذا، هي شؤمٌ هلى بلدتنا فقط،انا عند الرمال السوداء فسينقطع الشؤم عنها، وتنعم "داو" بالراحة لعام كامل حتى موعد الخصاد المقبل.
يغلقن اعينهن ويضممن أكفهن الى صدورهن بتضرع، جميعهن يردن النجاة ويشعرن بها قريبة، بينما يعلو صدرها ويهبط وتزوغ نظراتها ودبيب الخطر يتسلل الى عقلها؛ ليخبرها بجنون بأنها هي الهالكة بينهن، لا لشيء... سوى لأنها سلام فقط.
أنت تقرأ
دَاوْ - إلَّا قَلــيلـاً -
Fantasyداو إلا قليلا رفعت نظارتها اليه بفخر يتناوب على ابتسامتها مع الخجل كلما حدثها هكذا، وكأنها كل ما يملك، لا يحيد عنها بنطراته، وكأنما هي من علمته النظر!، كما علمته كيف يحتمي بدفء لقاءاتهما المتكررة من الغربة التي تضرب بصقيعها ارجاءه، ولأجل ذلك تحمل ف...