٢

178 4 1
                                    

ولما ارتفعت الشمس وتوسطت كبد السماء بدأت الطقوس الحقيقية واختض قلب سلام هلعا عندما دخل العجوز الغرفة التي وضعهن فيها عند الفجر وأغلق الباب منصرفا ليبتن ليلتهن هناك دون أن تغمض عين لإحداهن على الإطلاق!
  أمرهن أن يتبعن خطواته للخارج وساقهن خلفه كالعنزات اللاتي تعرف طريقها جيدا للمذبح ولا تملك الفرار أو حتى الاعتراض!
  جذب ذيل جلباب سلام الأحمر الطويل كل ما يستطيع من تراب وطين لازب متشبثا به مستجدا ، كفرصة أخيرة للنجاة .
  ها قد عدن للبركة مرة أخرى ، ولكن هذه المرة في حشد من الناس حولهن يشاهد ، ولا يجرؤ أحد على التدخل ، فقط يتخافتون عنهن ، ماذا لو لم تجف البحيرة التي تفصل بلدتهم عن بقية البلدان ، ماذا لو استطاعوا عبور الصحراء من الجهة الأخرى دون مطاردة قطاع الطرق ، دون الموت فيها عطشا ، ماذا لو لم تنقطع الطاقة في بيوتهم تماما ويعودون إلى الشموع مجددا ، ماذا لو لم يحصد يوم الفتنة الكبرى أرواح شباب البلدة لتبقي لهم العجائز ؟ هل كان سيختلف مصيرهن كثيرا ، هل كن ينعمن الآن بأحضان أمهاتهن؟
  تهمس إحدى الأمهات باكية وهي تشير إلى ابنتها ، لقد كانت تحب حياكة الملابس ، لقد كانت بارعة ، بينما الأخرى لا ينضب دمعها وهي تحكي عن فتاتها ، لقد كانت جميلة ، أوشكت على الزواج ، والثالثة والرابعة تناظران قطعة من قلبيهما بوداع ، يتشاركن الأماني بأن المختارة ستكون سلام ، سمراء البلدة الوحيدة صاحبة العيون الزرقاء ، إنها فتاة شؤم على نفسها وعائلتها ، لا بد وأن يختارها الغراب ، وتعود بناتهن إليهن سالمات!
  سار العجوز وهن يتبعنه بخضوع حتى تحلقن حول مياه البركة فاشتمن رائحتها الراكدة العطنة مجددا دون نفور هذه المرة ، فلقد جلسن بجانبها ليلة كاملة ، والاعتياد يمنع التمييز أحيانا .
  نبت على حوافها المنحدرة عشب أخضر متسلق ، يحوي بداخله كل الحشرات الليلية المزعجة .
  أشعة الشمس تضرب رؤوس الجميع ، وتفشي أبصارهم ، ويسيل العرق على الجباه ، فترفع الفتيات أكفهن كما يفعل الجميع ويضعنها بشكل مائل فوق أعينهن ليستطعن رؤية عائلاتهن ، بينما سلام تشرئب بكل جسدها لتستطيع النظر باحثة بين الحشد المجتمع حولهن في حلقة ضخمة متسعة ومتكدسة بالبشر باحثة عن أختها متسائلة بقلب وجل : ترى أين هي ليلى؟
- سلام، سلام.
كانت ليلى تناديها ، يكاد صوتها يضيع بين أصوات الأمهات اللاتي يصحن على بناتهن لينظرن نحوهن ، وبرغم ذلك استطاعت سلام سماعها ، وجرت بنظراتها سريعا بين الوجوه المكفهرة حتى عثرت على اليدين اللتين تلوحان لها من بينهم:
- لیلى!
كانت تلوح بيديها لتستطيع تمييزها من بين الناس ، اختلطت مشاعرها فلم تعد تعرف هل تبكي أم تبتسم ؟ كلاهما مختلط على ملامحها ، مفعمة بالأمل ويائسة حتى النخاع!
ليلى أختها الكبرى التي تحبها بكل تناقضاتها المحيرة ، هي من قامت على تربيتها بعد رحيل والديهما عندما أتمت سلام العاشرة من عمرها ، تضربها حتى يتورم جسدها ، وفي الوقت نفسه تجعل لها غرفة خاصة ببيت زوجها عقب زواجهما ، سلطان صخر العاصي .. ساحر البلدة!
  شهقات عالية مرتقبة شقت صدور الحشد ، وخطوات خائفة إلى الخلف صدرت لا إراديا من الحشد لحظة ظهور سلطان ، يتقدم بهيبته المعهودة نحو الشجرة القديمة جافة الأوراق منذ زمن بخطواته التي تشبه الزحف وكأنه لا يحرك قدميه من الأصل بينما طرف جلبابه الأسود الشاحب يتبعه مصدرا خلفه حفيفا لا ينقطع عيناه تجولان في الوجوه كالصقر بنظرات غائرة غامضة ، مقطبا جبينه ، يربط عمامته السوداء بقوة تاركا طرفها يتدلى خلف ظهره ، يرتفع أنفه للأعلى بشموخ وتجبر ، مر بجوار عجوز البركة فأطرق الرجل خائفا وهو يحني رأسه بتذلل قبل أن يتخطاه سلطان ويومئ له برضا ، فلقد أدى دوره كما يفعل كل عام بكل إخلاص وجدية ، جمع الفتيات وقص حكاياته واحتجزهن للصباح رهن إشارة منه ، أما بقية شهور السنة فهو يسير صامتا بين الناس في الأسواق صباحا ، مشعلا النار بجوار البركة ليلا وكأنه يحرسها ، لا ولد له ولا عائلة ولا أحد يناديه إلا بعجوز البركة!
  توقف سلطان بجوار الشجرة الضخمة مستندا إلى أحد الجذوع الضخمة فبات ينافسها ضخامة وطولا ، فيهتز الجذع بتردد تحت وطأة ثقله متراجعا للخلف ، ومن في البلدة كلها لا يهاب سلطان صخر العاصي ، حتى حاكم البلدة الذي بلغ الخمسين من عمره يدعي بأنه يخشاها وهو سعيد بذلك للغاية ، لا ينغص عليه سعادته سوى عائلة الراوي ، وتحديدا ابن عمومتهم الأصفر ، جلال الدين شمس الراوي .
- الغراب ، الغراب ، الغراب .
  هتافات الحناجر واشاراتهم الى الفق اجبرت سلام على ترك وجه اختها والالتفات سريعا نحو الشجرة الكبيرة، لقد اتى!
  أسود قاتم ذو عينين قاسيتين لا تختلفان كثيرا عن نظرات سلطان ، في تلك اللحظة ينعق في الأفق وهو يدور حول الجذع الأكبر المرتفع بلا توقف ، وتدور معه الأعين والقلوب ، يرتفع وينخفض بلا توقف سارقا أنفاس الجميع معه ، لم تشعر سلام بقدميها ، فسقطت على ركبتيها في اللحظة نفسها التي رفع فيها سلطان يده للأعلى باسطا كفه بتصلب يحاول السيطرة عليها ، لكنها تهتز بقوة دون أن تهبط وكأن أحدا ما يحركها رغما عنه ، يزداد نعيق الغراب ويزداد معه اهتزاز كف سلطان بينما سلام تموت بين ثانية وأخرى ، والدموع تنهمر كالشلالات من أعين بقية الفتيات حولها مرتجفات خوفا ، ينظرن نحوها وقد أصبحت كالحلس البالي يعلوها الغبار ، شاخصة البصر نحو ذاك الأسود ، الذي تخلى عن دورانه وحط بكل ثقله على حافة الجذع ، فاهتز لعدة مرات قبل أن يفارقه مجددا وكأنه يصفعه ، وبدأ يقترب منهن ويحلق فوق رؤوسهن ، وفجاة شعرت سلام بثقل له أنياب يحط على كتفيها ويسقط ظله فوق ظلها ليتمازجا ما ، فصرخت وصرخت وظلت تصرخ حتى اختفى كل شيء.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 26, 2021 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

دَاوْ - إلَّا قَلــيلـاً -حيث تعيش القصص. اكتشف الآن