أشعر بالملل، لطالما شعرت بالملل عند قدومي إلى هذا المكان، لكنني أحب مرافقة خالتي لمقر عملها... أعشق ذلك كثيراً.
خالتي طبيبة نفسية، تعمل كباحثة في هذا المركز الضخم، لا أملك الكثير من المعلومات حول ماهية هذا المكان و ما الذي يفعلونه بالضبط هنا، لكنني أعلم أن أنواع المرضى من المضطربين أو المعتلين نفسيا يأتون طلبا في العلاج، و أحيانا كثيرة مرغمين على الخضوع له..
إنه شهر تقريبا منذ بدأت أرافقها إلى مقر عملها، خالتي تملك مكتبها الخاص بالطابق الثاني، و أنا يُمنع علي لسبب ما تجاوز الطابق الأول. لهذا أقضي وقتي جالسة في الطابق الأرضي ، تماما كما هي الحال الآن..
أراقب الأطباء و المرضى يمشون جيئة ذهابا ، الرّواق تارة مزدحم و تارة أخرى هادئ فارغ... إنه ممل..
و بينما أنا جالسة على مقاعد الانتظار تراءت لي ملامح مألوفة لرجل يرتدي مئزرا أبيضا كمثل كل الأطباء العاملين هنا. كان قد دخل تواً غرفة الإستراحة، إنهم لم يبدؤوا العمل إلا قبل نصف ساعة.. أيعقل أنه تعب بالفعل؟
نهضت من مقعدي و قصدت الغرفة، طرقت الباب و دون الحاجة لسماع استئذان أولاً، أدرت المقبض و دخلت.
"صباح الخير دكتور! "
من تحيّتي الصباحية تفاجأ و التفت إلي مفزوعاً، كمراهق أمسكته والدته متلبّساً يسرق المال من حقيبتها...و هو أمر مريب، فليس و كأنني كنت صاخبة.
إلا لو كان متسللاً يخشى من أحد رؤيته..
"صباح الخير سديم، لقد فاجأتِني." ، في ضحكة مرتبكة أخبرني، و أنا نظراتي لم تكن إلا على كوبَيْ القهوة بين يديه. إذن لهذا دخل غرفة الإستراحة؟ لملئ كوب قهوة له و ل... آه، تخميني كان صحيحا..
"اووه قهوة صباحية كما العادة؟ بالهناء و الشفاء دكتور" ، دخلت و أنا أبتسم، و نحو آلة القهوة خلفه أشير، "أنا أيضا جئت أحصل على البعض."
"أجل بالطبع! كوب قهوة كل صباح يجعل اليوم أسهل بآلاف المرات! "
كعادته نشيط دائما..
عنه نقلت أنظاري نحو الكوب الثاني، أطلت التّحديق فصار ذلك جليّا له. ما دفعه ليخبرني عن سبب أخذه لكوبين تلقائيا، و كم بدى متحمساً، "هذا الكوب لخالتك ايناس، إنها تحب بدأ يومها بشرب القهوة كل صباح أيضا! لكنّها تنسى الحصول عليها دائما بسبب ضغط العمل... لهذا آخذ إليها كوبا معي كلما جئت لأحصل على واحد."
أعرف كل هذا...
بالنظر إليه، فقد كان يحدّق بالكوب الثاني و يبتسم، ملامحه عند ذكرها ترقّ و تُبشر. خالتي هي موضوعه المفضّل، فلا عجب أنّه لم يتوقّف عن الحديث عنها و مدحها، "إنها تعمل بجد حقا، صحيح؟ في زمننا هذا من الصعب إيجاد شخص بمثل تفانيها و إخلاصها، أدبها و رقّتها... إنها حقا مثالية..."
أيعقل أنه نسي أنه يتحدّث عن خالتي، و أمامي؟ إلهي فقط لأي درجة هو غارق في غرامها! إنني أكاد أرى الفراشات تحلّق حول رأسه و هو شارد في كوب القهوة... ليس من المستبعد أنه يرى طيف وجهها على المشروب الآن..
أمام آلة القهوة وقفت، لستُ بحاجة لأملأ لي كوباً... بدلاً ناظرته أبتسم، "إنك انسان لطيف جدا و طيب دكتور، لا بد أن خالتي ممتنة لك... و إلا لما تركت أمر كراهيتها للقهوة سراً عنك."
"ماذا؟ "
"إنها لا تحب القهوة في الحقيقة. ألم تتساءل يوما عن سبب عدم أخذها لكوب قبل صعودها لمكتبها؟ لو كانت قد نستها حقا، فيمكنها بكل بساطة النزول لإحضارها أو طلب ذلك مني."
ضائع النظرات صار يحدّق بي، بدى حائرا كما لو أنني طرحت عليه أحجية صعبة الحل. و الآن أنا مضطرة للتّفسير له أكثر، "لا بد أنها لم تستطع ردّك عندما أحضرت لها القهوة أول مرة، و عندما تكرر الأمر و أصبح عادة لك، زادت خجلا و لم تستطع إحراجك، لهذا صارت مضطرّة لشُربها معك رغما عنها... لا بد أنها لم تكن مرتاحة، لكن هذه هي خالتي... دائما كانت هكذا، لأجل إسعاد الآخرين هي مستعدة لتتخلى عن سعادتها."
إنه يحبها، و لو ما كان يعشقها لما شحب وجهه و اتسعت عيناه، مصدوما كما لو كان قد ارتكب خطيئة لا تغتفر.
على الكنبة خلفه جلس فشلا، أمام ناظراي ابتسم ساخرا من نفسه. لقد كان مُحرجا جدا، و الدليل تورد خذّيه.
"اووه الأمر هكذا إذن.. يا لغبائي ..كيف لم أنتبه لشيء كهذا.. " ، زاد قهقهة على نفسه محاولا التخلص من الحرج، و في النهاية ناظرني و ابتسم لي شاكرا، "إنني حقا ممتن لكِ سديم، لولاكِ لتابعت أخذ القهوة لها.. لابد أنني كنت مصدر إزعاج.. "
كم تحسّر أمامي، و في النهاية قدّم لي كوب القهوة الثاني، "خذيه بدلا، لا حاجة لتملئي كوبا جديدا."
"شكرا جزيلا..."،أخذت الكوب منه، "...أيضا لاداعي للقلق دكتور، خالتي تعلم أنك لم تقصد و أن نيتك كانت طبية..."
أجل.. هي تعشقك أيضا و بشدة، لدرجة أنها توقفت عن أخذ كوب قهوتها الصباحية فقط لكي تأتي أنت بواحد لها يوميا إلى مكتبها، فتنعم بوقت منفرد معك و تتمتّع بتحديثك.
إنه وسيم، غني و محبوب، بالنظر إلى ملامحه الآن و هو يحتسي من كوبه أمامي، فلا أستغرب كيف أن خالتي مثّلت نسيان قهوتها فقط لكي تنجح برؤية هذا المنظر كل صباح.
لكن ابتداءً من اليوم، إنها لن تستطيع أن تنعم بهذا المنظر مجددا.. سلبتكِ إيّاه و إنّها ليست إلا البداية يا اخت أمي.
احتسيت من كوب القهوة الذي كان ليكون لها، إنه شعور عظيم... لكن المذاق الذي تركه على لساني لاذع مر.
..كم أكره القهوة.
.
.
.أنت تقرأ النسخة الأوليّة من "خذ بيدي، نحو الهلاك سأرميك" (ღ˘⌣˘ღ)
أنت تقرأ
خذ بيدي، نحو الهلاك سأرميك
Non-Fiction"مددت لك يدي فأخذت بها دون أن تدري عن وجهتنا، يوم كنتَ مكسورا فضمّدت جراحك، لكنّك جئت تخبرني أنني طعنتك طعنة موجعة بدلاً؟ أوستصدّقني لو قلت أنني لا أفهم لما رحيلي آلمك؟ هذه أنا، الإنسانة التي ستريك عشرات السّبُل لتختار ما تشاء من بينها... و كلها...