1

73 4 0
                                    

علت صافرات إنذار صامتة بين أرجاء المكان، على الأقل بين طبول رأسها، صافرات كادت تفقد "هنات" عقلها، تَمْلَأ صدرها هواءًا فلا تدري له زفيرا. فاقدة هي وعيها، أو فقط أن الكلمات لا تجد مفرا من حلقها ولا نور يجد في عينيها مرقدا، مجرد تأوه يضرب كالسوط أفئدة من حولها، تحوم بعينيها فلا تجد معنى لما يجري حولها، تمتص صدمتها مقضة شفتها، عندما ترمي عينيها حول نفسها. هل هم أموات أم ماذا؟ هل ستلتحق بهم بعد العملية؟ أم أن رمال ساعتها انقضت؟

أمسك "محمود الحفصي" يدها مطَمئنا إياها بأن الخير قادم. طالما حاز على ابتسامة "هنات" في كل مرة يردد عليها متون التفاؤل هاته، تسكنها في راحة وسلام، فيهنأ بالها مطمئنا. ارتسمت تكشيرة على قسماته، واستحوذ الخوف على جفونه، ظاهرٌ بشدة في رعشة يديه وتلعثم لسانه، كيف لا يحزنه وضع "هنات" وهي بين كفي الموت والحياة، يخاف خسارتها بعد عِشرة السنين.. يفرك شعراته المجعدة ويمسح العرق عن جبهته في حسرة من أمره. وخلفه "هند" .. أخت "هنات" التي غمر الدمع مقلتيها المزينتين بكحل عربي حار، قامتها لا تقارع حجم خوفها الذي تظلل بقامة "محمود" تسرع في مشيتها، ممسكة بقميصه البالي، من ثوب باهت ضاعت معالمه من هول الحياة، تربيعاته أبانت الرغبة في تزيين تسعيني عفا عنه الزمن. تمسكت "هنات" بسريرها المتنقل كتمسكها بأمل حلم طال انتظاره، عيناها الكابيتان عنونا بهوان أثقل قلبها وخنق صدرها تترجى حول الله ورحمته.

دخلت "هنات" غرفة العمليات، جارةً معها أمل محمود في الحصول على ابنٍ يحمل اسمه ويحفظ نسله، مهما طال انتظاره، تصبب عرقا من شر ما راج في عقله، فتهودجت روحه مختلجة، رمق "هند" بجابه، كادت أن تنهي أربعينيات عمرها، دون أن ينصفها قدرها بأسرة تمنت هي الأخرى أن تجازى بها، أملت لو أكرمها الله بألم كالذي ضرب جفون اختها، ارتمت في حضن صهرها الكهل، تمسكت به فربت على كتفها عندما سمع أنينها في دعائها لربها، طلبا لنجاتها، فلاقت إيمانا من "محمود" الذي ابتسم في عينها قائلا إن فيها خير...

***

كانت "هنات" مبتغى "محمود" منذ سنين مراهقته، أحبها أملا يخرجه مما عاشه مع أهله خلال الحرب، عانى طويلا قبل حصده عملا كسائق شاحنة بضائع، يتجول بها البلاد شمالها وجنوبها. لم تمر على توظفه سوى أشهر معدودات حتى تقدم لزواجها زاعما حبه الأجم لها لكنه لقي رفضا شنيعا من طرف والدها "عوض الله" الذي ظمئ مستقبلا أفضل له بين أرحام بناته. غاب "محمود الحفصي" لسنين أملا أن يكون القفص الذي احتجزته "هنات" بين أصفاده، صامدا. إلى أن عاد متوسلا يد فتاته من بيت أبيها بعد أن ابتاع لنفس حياة أفضل، امتلك بيتا محترما، يزينه أثاث لا عيب فيه، أصبح يعمل بمقطورته الخاصة، الأمر الذي دفع بوالدها المحتضر، أن يعيد التفكير في قراره، رفض دام لسنين أعدها "محمود" بالثواني والدقائق، كانت كافية لتجعل الحاج "عوض الله" يقبل به زوجا لابنته الكبرى "هنات"، علا صيت زواجهما بين أزقة "أدليانا". وبعد سنين من الحب والتطلع لعش الزوجية، يحضنهما ويجمعهما تحت سقف الحلال، تجرع الزوجان مرا ومرارة أطاحا بكتفي محمود وزوجته. من ذا الذي ظن أن نسل آل "الحفصي" سيشهد عقما بئيسا. تجولا بين أطبة البلد وفقهائها، لكن لم يجدا لشيمتهم سوى خيبات الأمل.

غدرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن