ذاكرة من قش

241 10 11
                                    

طاحونةُ الهواءِ تدورُ، والصُبحُ يتنفسُ، لفحةٌ باردةٌ مِن نسائمِ الفجرِ تتسللُ إليهِ عبرَ النافذةِ المشرعةِ، صوتُ صياحِ الديكِ يخنقهُ، يستيقظُ المزارعُ العجوزُ ثائرَ الأنفاسِ، حبَّاتُ العرقِ تنزلقُ عَلى جبينهِ المجعدِ، حفرتِ السنونُ عَلى وجههِ وحولَ عينيهِ السَّوداوينِ أخاديدًا تكدَّسَ فِيها التعبُ، في عينيهِ الضَيْقتينِ نظرةٌ مشوشةٌ، كأنهما قعرُ جُبٍ، نهضَ عَن سريرهِ مُثْقلًا بشيءٍ لا يدركهُ، يُجرجرُ ساقيهِ إلى خارجِ الغرفةِ التي تفوحُ مِنها رائحةُ العلفِ، كانَ مُنْحنيًا كغُصنٍ يابسٍ.

ذَرعَ المنزلَ جيئةً وذهابًا، يتملكهُ شيءٌ مِن الهدوءِ رغمَ نظراتهِ التائهةِ، راحَ يفتحُ الخزائنَ التي يَمُر بها ويجيلُ النظرَ فيها، كأنهُ يبحثُ عن شيءٍ، الشيءُ يختبئُ مِنه في خزانةٍ ما، لكن أينَ الخزانةُ؟ في مكانٍ ما في المنزلِ الضيقِ.

خلَصَ إلى المطبخِ مُهتديًا بنورِ الشمسِ الضئيلِ الذي يتسللُ مِن خلفِ الستائرِ، فتحَ الخزائنَ العلويةَ واحدةً تلوَ الأخرَى، لكنهُ لا يجدُ ذلكَ الشيءَ فِيها، راحَ يرمي ما فِيها وقد تملكهُ الجُنونُ، رَمى الأواني الخزفيةَ فتحطمتْ وتعالى صوتُ الضجيجِ فوقَ سكونِ الصباحِ، لكن أذنيهِ غائمتانَ، يترددُ في ذهنهِ صوتٌ مشوشٌ، يُردد: الشيء.

لَمعت عيناه حينَ أبصرَ مِنجله الصَدِئ متكئًا على الأوانيِ، أخَذهُ ومشى بِه إلى الحقلِ والشمسُ تُنيرُ جبينَهُ ورأسَهُ الأشيبَ.

كانتْ تحبو إلى الأرضِ ببطءٍ، أشعتُها دافئةٌ، لكنَها لا تطالُ سوى أناملَهُ المجعدةُ، يتلمسُ صدرَهُ كأنهُ يبحثُ عن قلبِه أو شيئًا ضاعَ بَيْن طيّاتٍ ملابسِهِ الرَّثةِ، يَنظرُ إلى الشمسِ ونُورِها الخجولِ، فيلوحُ وجهُ مشوشٌ في صُفرتِها، يطلُّ من تحتِ الأرضِ، كأنَهُ يدعوهُ ليَدنو، شعرَ المزارعُ بأن الشمسَ تنتمي إليهِ أو رُبما ينتمي إليهَا، لا فرقٌ، الشمسُ ستعطِيه ما يريدُ، ستذبيهُ وما يحتويِه من فراغٍ.

لكنهُ عالقٌ في حدودِ الحقلِ المقيتِ، شرعَ في عملهِ، يقتلعُ حشائشِ الأرضِ الجافةِ، بكفيهِ المجعدينِ ونظرةٌ غريبةٌ للأرضَ، كان بالكادِ يرى القشَ الأصفرَ لكنهُ يواصلُ العملَ، لماذا الأرضُ لا تعطِيه ما يُريد؟ لا تعطيه إلا القشَ، مهما فعلَ بِها.

تَابع العملَ طوالَ النهارِ القائظِ، تُظللهُ الشمسُ أنى ذهب، كان الصيفُ يرحلُ لكن الشمسَ لا زالتْ مُحرقةٌ، لكن جَوْفَهُ يَحترقُ أكثرَ مِن جَوْفِها؛ لأنهُ لا يجدُ ما يريدُ في الأرضِ بعدَ أن تخلّتْ عنهُ الشمسُ، لماذا الأرضُ لا تمنحهُ ما يريدُ؟ لماذا هو عالقُ بِها؟

انهارَ على الأرضِ بعدَ أن أنْهكهُ التعبُ ويَئِس مِنها، رَمى المنجلَ جانبًا وراقبَ كَفهُ الذَي احمَّرَ من فَرَطِ ما أمْسَكه، حدَّقَ في دربِ القشِّ الطويلِ الذي خلفهُ، مٌتناثر ومُبعثر، كلٌ شيءٍ يَبدو قبيحًا، الحقلُ الذي لا ينبّتُ ما يتمناه، وصدرهُ الذي يحترقُ، وذهنهُ المشتتُ، تمامًا كدربِ القشِّ.

أقاصيصWhere stories live. Discover now