كان داخل النافذة دائماً، دائماً

14 1 3
                                    




كنتُ طفلاً من الأطفال النادرين الذين لا يسمح لهم بالذهاب للخارج، ربما لأن أمي كانت مشغولة لدرجة أنها ستنسى أن تناديني عند الغروب للعودة للداخل، أو ربما لأن أبي كان بخيلاً أكثر من أن يسمح لي بلعب كرة القدم في الفناء كي لا اكسر شيئاً ويضطر لإصلاحه لاحقاً.

لذا كانت النافذة متنفسي الوحيد تقريباً-غير الكتب التي كان أخي يجلبها لي بين فترات متباعدة للترفيه عن نفسي-، كانت لي أكثر من حياةٍ خارج النافذة كنتُ أرى أشياءً تمنيتها، وأشياءً جديدة أثارت إعجابي، كنتُ أرى أمهات يسحبن أولادهن من آذانهم للعودة للمنزل، وفتياتٍ يلعبن القفز على الحبل، ورأيتُ العجائز الذين يقفون في منتصف الطريق يسترجعون أيام طفولتهم وكنتُ أسمع حديثهم أحياناً عندما أفتح النافذة حين لا تكون أمي بالجوار كي لا توبخني لإدخالي الغبار للمنزل، رأيتُ أشياءً عديدة خلف النافذة جعلتني أغفل عن عالمي وحياتي الحقيقية، ومرت مدة طويلة منذ نظرت لحياتي، حتى نسيتها تماماً.

عندما كبرت واستوجب علي ترك حياة النافذة للخروج للخارج أخيراً، كنت سعيداً جداً، وكدت أقسم أنني لن أعود للمنزل طالما يسمح لي الخروج، خطوت أولى خطواتي للخارج حيث لم أكن ذاهباً للمدرسة أو لمنزل أحدٍ من أقاربي، بل ذاهباً للعب كرة القدم في الفناء، للتجول في أنحاء الحي، لتحية العجائز الذين بتُّ أعرفهم جميعاً لجلوسي سنواتٍ أمام النافذة، للعب القفز على الحبل-بالرغم من كبر سني-، لفعل كل شيءٍ كان لا يسمح لي بفعله.

عند خروجي كانت السعادة هي كل ما أشعر به، سأتجول في كل مكان، وأحادث جميع أصدقائي الذين لم يتسنى لنا رؤية بعضنا مسبقاً، للعيش كما أردت وكما يحلو لي اخيراً، اليوم سأفعل ذلك

توجهت لمحل البقالة اولاً لشراء ذلك المشروب الذي كانوا يحملونه تلك المجموعة الكبيرة من أطفال حينا، الذين باتوا كباراً الآن ولم أعد اراهم كثيراً سوى عند خروجهم لمدارسهم معي أو تجولهم النادر في ارجاء الحي مرتدين سماعات رأس وتعلو وجههم تكشيرة غريبة أظن أنها باتت بين مراهقين الحي حالياً -بينما أنا كنت مختلفاً تعلو وجهي ابتسامة تكاد تصل لأذناي-

رأيتُ عند خروجي من محل البقالة أحد عجائز الحي كان اسمه "مجاهد" وكانوا دائماً ما ينادونه بالعم اللطيف والجميع يحبه على عكس العم "حازم" كان دائم الصراخ على أطفال الحي وتعلو وجهه ملامح حازمة كما اسمه، لكنني كنتُ أراه يحاول جذب الانتباه لأنه إن لم يفعل ذلك لن يراه أحد سيبقى دائماً غير موجود، لكنني عندما ناديتُ "العم مجاهد" أظهر ملامحاً مستغربة كما لو أنه لم يعرفني نظر إلي مدققاً فيّ، ثم قال "آها" خفيفة وأماء برأسه مظهراً ملامح أخرى مستاءة وذهب في طريقه، هذه علامة على أنه عرفني صحيح؟ نعم وإلا كان سألني من أنا، يحال بعد كل تلك السنوات لا يعرفني.

طفلٌ داخل النافذة.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن