الفصل الأول

10K 197 26
                                    

في الأيام الأولى من شهر تموز، وكان الحر شديداً للغاية، خرج شاب في نحو نهاية الأصيل، خرج من الغرفة الصغيرة التي كان يسكنها في زقاق س... واتجه نحو جسر ك... بطيء الخطى كأنه كان متردداً.
لقد أسعفه الحظ فأفلح أثناء هبوطه السلم  في تحاشي لقاء صاحبة  الشقة التي يسكن عندها. إن الغرفه التي يسكنها الشاب تقع تحت السقف من منزل عال يتألف من أربعة طوابق، وهي أقرب إلى جحر  منها إلى مسكن. وكانت صاحبة الشقة التي تؤجر هذه الغرفة مع الطعام والخدمة، تسكن هي نفسها في الشقه  المنفردة في الطابق الأدنى، فكان لا بد للشاب، كلما خرج، أن يمر حتما أمام مطبخها الذي يظل بابه مفتوحا على السلم دائما، وكان الشاب يشعر في كل مرة أثناء مروره بضيق وحرج وانزعاج فيحسّ بالخجل من هذا الشعور ويتقلص وجهه، ويغدو قاتم النفس. كان مديناً لصاحبة الشقة فيخشى أن يلتقي بها.
وليس مرد ذلك إلى أنه جبان رعديد، أو إلى أنه مروّع مذعور، بالعكس... ولكنه يعاني منذ بعض الوقت حالة من التوتر و العصبيه توشك أن تكون مرض الكآبة. لقد بلغت حياته من الإعتزال ومن فرط الإنطواء على النفس أنه يخشى لقاء أي انسان، لا لقاء صاحبة الشقة فحسب. كان يعيش في فقر مدقع، وبؤس شديد، ولكن العوز نفسه أصبح في هذه الآونة الأخيرة لا يثقل علية،أصبح الشاب لا يهتم بشؤونه ولا يريد أن يهتم بها، والواقع أن صاحبة الشقه كانت لا تخيفه، مهما تكن المكائد التي تدبرها له، ولكن الوقوف على فسحة السلم، والإصغاء إلى ثرثرات سخيفة شتى عن ترهات لا تعنيه في قليل ولا كثير، واحتمال التذكير الدائم المستمر، الذي تصحبه تهديدات و شكاوى، بضرورة مبادرته إلى دفع الأجرة، واضطراره إلى اختلاق الحيل وانتحال الأعذار وتلفيق الأكاذيب... ولكن ذلك كله أصبح من الأمور التي لا يمكن أن يطيقها، فهو يؤْثر على ذلك أن يتسلل على السلم تسلل هرة، وأن يفر دون أن يراه أحد. على أن الخوف الذي شعر به هذه المرة من تصور  أن دائنته قد تراه، أدهشه هو نفسه منذ أصبح في الشارع.
حدث نفسه يقول، وهو يبتسم ابتسامة غريبة ((أفكر في الإقدام على عمل مثل ذلك العمل، ثم أشعر  بالخوف لأمر تافه هذه التفاهة! نعم، أن كل شيء موجود لدى الإنسان، ومع ذلك يدع الإنسان لكل شيء أن يمر تحت أنفه... وما ذلك إلا لأن الإنسان جبان...نعم، هذه بديهة.. إنه لمن الشائق أن نعرف ما الذي  يخافه البشر أكثر ما يخافون...إلا أن أكثر ما يخافه البشر أكثر ما يخافون هو أن يتقدموا خطوة إلى أمام، هو أن يقولوا كلمة شخصية. على أنني أسرف في الثرثرة كثيرا، وإذا كنت أثرثر فلأنني لا أفعل شيئاً. ومع ذلك فأنا في هذه  الأشهر الأخيرة إنما تعلمت الثرثرة قابعاً في ركني أفكر... أفكر في كل شيء ولا أفكر في شيء. مثلا: فيم أذهب الآن إلى هناك؟ أأنا قادر على أن أفعل ((ذلك الأمر))؟ هل((ذلك الأمر)) جد حقا؟ لا... ما هو بالجد البته! وإنما هو نزوة خيال لا أكثر! إنني ((أدغدغ)) نفسي ملتمساً تسلية. نعم، أعتقد اعتقاداً جازما بأنني ألتمس لنفسي تسلية...))
الحر في الشارع مايزال مرهقا. يضاف إلى ذلك نقص الهواء، والإزدحام، والكلس المنتشر في كل مكان، والسقالات، والأجر، والغبار، ثم ذلك النتن الصيفي الخاص الذي يعرفه كل ساكن من سكان بطرسبرج لا تتيح له موارده أن يستأجر بيتا صيفيا في الضواحي. إن اجتماع ذلك كله قد  أثار أعصاب الشاب الذي كانت أعصابه مهتزه من قبل فأورثه مزيدا من الضيق،و هذه روائح كريهة تنشرها خمارات كثيرة جدا لي هذا القسم من المدينه، وهؤلاء سكارى يلقاهم المرء عند كل خطوة رغم أن اليوم ليس يوم الأحد بل هو يوم عمل، فتصطبغ اللوحة بلون حزين منفر. إن شعوراً عميقاً بالإشمئزاز يرتسم للحظه على القسمات الدقيقة من وجه الشاب. والشاب حسن الصورة وسيم الطلعة، له عينان دكناوان رائعتان، وشعر أشقر ضارب إلى لون كلون الرماد، وقامة فوق الوسط طولا، نحيلة ممشوقة، ولكنه لا يلبث أن يبدو عليه الإسترسال العميق في التفكير، أو قل الإنحدار إلى نوع من الغيبوبة. وظل يسير لا يرى من حوله شيئا، ولا يرغب في أن يرى أي شيء. كل ما هنالك أنه كان، بين الفينة والفينه، يستأنف محاورة نفسه، جريا على عادة إلقاء مونولوجات، تلك العادة التي اعترف بها لنفسه الآن. وأدرك في تلك اللحظة نفسها أن خواطره وأفكاره تختلط وتضطرب من حين إلى حين،وأنه ضعيف جداً: انه لم يكد يأكل شيئا منذ يومين.
وكان يرتدي ثيابا تبلغ من الرثاثة أن شخصا آخر غيره كان لابد أن يشعر بالضيق وحرج، مهما تكن عاداته المكتسبة، إذا هو خرج في وضح النهار بمثل تلك الأسمال. الحق أن هذا الحيّ ليس من الأحياء التي يمكن أن يستغرب فيها الناس منظر رداء. إن هذا المكان قريب من (( سوق العلف))،الذي تكثر فيه محالّ من نوع خاص،والذي يتألف سكّانه أساساً من صنّاع وحرفيين متكدسين في هذا الشوارع والأزقة من مركز بطرسبرج،يشتمل على تنوع كبير في الأفراد يستغرب معه أن يدهش أحد من شخص متفرد بعض التفرد.على أن نفس الشاب قد بلغت من فرط الامتلاء بالاحتقار الكاره انه رغم ما يتصف به طبعه من شده التأذي(الذي يتميز به احيانا الشباب)، كان لا يشعر بخجل كثير من عرض اسماله الباليه في الشارع. ولا كذلك إذا هو التقى باشخاص يعرفهم او برفاق قدامى لا يحب على وجه العموم ان يختلف اليهم...
ومع ذلك حين اعول سكّير كان مقوداً ﴿لا تدري الى اين ولا لماذا﴾ في عربه يجرها حصان قوي، حين اعول هذا السكير على حين فجأه قائلا بصوت مجلجل وهو يومئ إليه بيده:«هيه، انت يا صاحب القبعه الالمانية!»، فإن الشاب توقف بغتهٌ، وقبض على قبعته بحركة عصبية.
هي قبعه عاليه مشتراة من عند تسيمرمان لكنها قد اهترأت اهتراءً تاماً، واحمر لونها، وغشيتها البقع وثقبتها الثقوب وزالت حافتها وانطوى احد طرفيها حتى صار زاويه بشعة كريهة. على ان الشاب لا يشعر بالخجل، وانما استولت عليه عاطفة اخرى تشبه الهلع.
ودمدم يخاطب نفسه مضطرباً:
«كنت أعرف هذا حق المعرفة... قدّرته من قبل!... ذلك أسوأ ما في الأمر تكفي ترهة سخيفة من هذا النوع، ويكفي أمر تافه كهذا، حتى يتعرض كل شيء للخطر! نعم، إن هذه القبعة صارخة...  هي مضحكة، وهي لذلك صارخة.. مادمت أرتدي هذه الأسمال البالية لا بد لي من قلنسوة،أو من أية طاقية عتيقة. أما هذه القبعة الفظيعة فلا!.. ما من أحد يلبس قبعة كهذه القبعة. إنها تُرى من مسافة فرسخ كامل.. ومن رآها مرةً يتذكرها ولا ينساها... يتذكرها في المستقبل... فتكون هي الدليل القاطع... إنني أحتاج الآن إلى أن لا ينتبه إليّ أحدا!.. إن الأشياء الصغيرة هي التي لها أكبر شأن وأعظم خطر!.. هذه هي الحقيقة، إن أشياء صغيرة كهذه القبعة هي التي تفسد كل شيء في آخر الأمر دائما..»
لم يكن طريقه طويلاً، حتى لقد كان يعرف عدد الخطوات التي يجب أن يقطعها منذ يجتاز باب منزله: انها سبعمائة وثلاثون خطوة تماما، لقد عد هذه الخطوات ذات يوم من الايام بعد ان افرط في الاستسلام لاحلامه. في ذلك الاوان لم يكن يصدق بعد ان هذه الاحلام واقعة، وانما كان يروح عن نفسه بما تشتمل عليه تلك الاحلام من جرأة دنيئة فتانه في آن واحد. اما الآن، بعد انقضاء شهر على ذلك الاوان، فقد اخذ يرى الامور رؤية مختلفة، ورغم جميع المحاورات المحنقة التي كانت تجري بينه وبين نفسه، والتي كان في اثنائها يعيب على نفسه ضعفه وتردده، فإنه قد اعتاد، رغم ارادته تقريبا، ان ينظر الى هذا«الحلم الدنيء» نظرته إلى مشروع عليه ان ينقذه»،دون أن يزداد من ذلك ثقة بنفسه على كل حال. وهو الآن ذاهب لإجراء تمرين على ذلك الفعل الدنيء، فاضطرابه يزداد قوه عند كل خطوة.
وفيما هو منهار القلب تسري في جسمه رعدة عصبية، اقترب من مبنى ضخم يطل من احدى جهتيه على القناه ويطل من الجهة الاخرى على شارع س...، إن هذا المنزل، المقسم إلى مساكن صغيرة، يسكنه اناس من جميع الانواع: خياطون، وقفالون،وطباخون، والمان مختلفون، وشابات يعشن من جمالهن، وموظفون صغار، وهلمّ جرا...إن الذهاب والإياب تحت قوسي مدخليه الكبيرين، و في فناءيه الواسعين، لا ينقطعان. وثمة بوّابون ثلاثة أو أربعة يتولون أمره. فما كان أشد سرور الفتى حين لم يلتق بأحد منهم. فلما أجتاز المدخل تسلل إلى السلّم الأيمن دون أن يراه أحد. إن هذا السلم ضيق، مظلم،«أسود»، ولكن الشاب يعرفه فقد سبق أن درسه، ثم إن هذا الجو يعجب الفتى ويرضيه، فهو في ظلام كهذا الظلام لا يخشى أن تقع عليه نظرة مستطلعة. ومع ذلك قال الفتى لنفسه رغم إرادته حين وصل إلى الطابق الثالث: «إذا كنت أشعر الآن بهذا الخوف كله، فبماذا يمكن أن أشعر إذا اتفق أن مضيت إلى آخر الشوط؟»... وهناك كان يسدّ طريقه صناديق وجنود سابقون كانوا يخلون أحد المساكن من أثاثه. كان الفتى يعرف من قبل أن موظفاً ألمانياً هو رب أسرة كان يقيم في هذا المسكن حتى ذلك الحين. فقال لنفسه ايضاً قبل أن يقرع جرس الباب «أن هذا الألماني ذاهب إذن الآن، فلا يبقى على الفسحه الثالثة من السلّم، خلال فترة من الوقت، إلا مسكن واحد مشغول هو مسكن المرأه العجوز، ذلك أمر تسرّ معرفته... حين تأزف الساعة». ثم ضغط على جرس باب الشقة ورن الجرس رنيناً  ضعيفاً كأنه من حديد أبيض لا من نحاس، إن الأجراس تكون دائما من هذا النوع في المساكن الصغيرة التي تتألف منها عمارة من هذا الطراز. وكان الشاب قد نسي صوت ذلك الجرس، فإذا هو يحس هذا الصوت الآن تذكيراً مباغتاً بشيء تخيله واضحاً... فارتعد. كانت أعصابه في هذه المرة منهكة. وبعد دقيقة شق الباب شقاً ضيقاً، وأخذت ساكنة البيت تتفحص القادم الجديد، من خلال هذا الشق، بشك واضح وارتياب ظاهر، إن المرء لا يرى، في الظلام، إلا عينيها الملتمعتين. ولكنها حين أبصرت على فسحة السلم أناساً كثيرين اطمأنت ففتحت الباب فتحا كاملا. اجتاز الفتى العتبة، وولج حجرة المدخل المظلمة التي يقطعها حاجز جعل ما وراءه مطبخاً صغيراً. وقفت العجوز قبالته صامتةً تحدجه بنظرة سائلة. هي امرأة عجوز قصيرة جدانحيلة جداً، في نحو الستين من العمر، لها عيناي حدتان شريرتان، وأنف صغير مدبّب، وكانت حاسرة الرأس، فشعرها الفاتح قليل الشيب يلتمع ببريق الزيت، وخول عنقها الطويل النحيل الذي يشبه ساق دجاجة كانت تلتف خرق مبهمة من قماش «الفلانيل»، وتضع على كتفيها، رغم الحر الشديد، سترة قصيرة فرائية قد اصفر لونها وتنسل وبرها. كانت العجوز تسعل وتتأوه في كل لحفظة. وأغلب الظن أن الفتى ألقى عليعا نظرة خاصة لأن الشك والإرتياب عادا  يظهران في عينيها.
تذكر الفتى فجأة أن عليه أن يكون لطيفاً ودوداً، فأسرع يدمدم قائلا للتعريف بنفسه وهو ينحني نصفياً: 
_راسكولنيكوف، طالب. جئت إليك منذ شهر...
فخاطبته العجوز تقول بصوت واضح متميز من دون أن تحوّل نظرتها السائلة عن وجهه:
_أتذكر يابني، أتذكر جيداً أنك جئت...
فتابع راسكولنيكوف كلامه وقد ساوره شيء من الدهشة والإرتباك حين لاحظ شك العجوز وارتيابها:
_ها أنذا أجيء إليك مرة أخرى... لأمر صغير من ذلك النوع نفسه...
وحدث نفسه قائلا وهو يشعر بضيق: «الحقيقة أنها ربما كانت هكذا دائما،ولكنني لم ألاحظ ذلك في المرة الماضية»
وصمتت العجوز كأنما لتفكر،ثم تنحت قليلاً،وقالت للزائر وهي تدله على باب الغرفة وتدعه يمر قدامها:
_تفضل ادخل يا بني!
دخل الشاب غرفة صغيرة مفروشة الجدران بورق أصفر،فيها أزهار جيرانيوم، ولنوافذها ستائر من قماش الموسلين.وكانت الغرفة في تلك اللحظة تضيئها أشعة الشمس الغاربة بنور ساطع
:  . قال الفتى يحدث نفسه  « ماذا؟  هل ستسطع الشمس إذن هذا السطوع حينذاك». لقد اخترقت هذه الفكرة ذهن راسكولنيكوف على غير علم منه، فإذا هو يلف الغرفة كلها بنظرة سريعه ليدرس ترتيبها وليحفظه في ذاكرته إن أمكن ذلك.  ولكن هذه الغرفة لا تتميز كثيرا بصفات خاصة. إن أثاثها المصنوع من خشب أصفر على طراز عتيق، يتألف من أريكة ذات مسند خشب ضخم له أقواس، ومنضدة بيضاوية الشكل موضوعة أمام الأريكة، وخوان زينة بمرآه صغيرة موضوع بين نافذتين وكراسي مصفوفة على طول الجدران، ولوحتين أو ثلاث لوحات لا قيمة لها، موضوعة في أطر مصفّرة، تمثل آنسات ألمانيات في أيديهن طيور. ذلك هو الأثاث. وفي ركن من أركان، أمام أيقونة صغيرة كان يسطع سراج صغير. والمكان كله تسوده نظافة قصوى، فالأثاث وأرض الغرفة قد دلكت بالشمع فهي تلمع. قال الفتي يحدث نفسه: «هذا من عمل اليزافيتا!» ماكان لأحد أن يستطيع العثور على ذرة غبار واحده في المسكن كله. عاد راسكولنيكوف يحدث نفسه فقال:« لا يجد المرء نظافة كهذه النظافة إلا عند الأرامل العجائز الشريرات». قال ذلك والتفت ببصره خلسة يستطلع ستارة من قماش قطني تحجب باباً يصل هذه بغرفة صغيرة أخرى فيها سرير العجوز وخزنتها وهي غرفة لم يسبق له أن دخلها قط. إن المسكن كله لا يضم إلا هاتين الغرفتين.
سألته العجوز بقساوة وهي تدخل الغرفة بعده تقف مرة أخرى أمامه لتفحصه وجهاً لوجه:
_أي خدمة؟
قال الفتى:
_جئتك بشيء أريد أن أرهنه. هو ذا...
قال ذلك وأخرج من جيبه ساعة عتيقة مصنوعة من فضة، رسمت على غطائها الكرة الأرضية، ولها سلسلة من فولاذ.
قالت المرأة العجوز:
_ولكن مدة رهنك الأولى قد انتهت. انقضى على الرهن الأول شهر منذ أمس الأول.
_سأدفع لك الفائدة عن شهر آخر. أصبري عليّ.
قالت:
_أنا التي أقرر أ أصبر أم أبيع الرهن الآن. هذا شأني أنا يا بني.
هل تقرضينني مبلغاً كبيرا على رهن هذه الساعة يا أليونا ايفانوفنا؟ 
_إنك تجيئني دائما بأشياء صغيرة تافهة ليس لها قيمة البتة... لقد أقرضتك في المرة الماضية ورقتين صغيرتين « أي روبلين» على رهن خاتمك، مع أن في إمكان أي إنسان أن يشتري من عند الصائغ خاتماً جديداً من نوعه بروبل ونصف روبل
_اقرضيني أربعة روبلات على رهن الساعة. سأفكها قريباً...
ورثتها عن أبي. وسيصلني مبلغ من المال بعد مدة قصيرة.
_أقرضك على رهنها روبلاً ونصفاً؟
_لا مساومة. إما أن تقبل وإما أن ترفض.
قالت العجوز ذلك ومدّت إليه الساعة، فتناولها الفتى غاضباً حتى لقد هم:  أن ينصرف. ولكنه لم يلبث أن عدل عن ذاك إذ تذكر أنه ليس هناك مكان آخر يذهب إليه وأنه جاء لغرض آخر أيضاً.
قال بلهجة خشنة:
_هاني!
فدست العجوز يدها في جيبها لتخرج مفاتيحها، ومضت إلى الغرفة الآخرى وراء الستارة. فلما أصبح الفتى وحيداً وسط الغرفة، أصاخ بسمعه مستطلعاً، وأطلق العنان لخياله
سمعها تفتح الخزانة. قال يحدث نفسه «أغلب الظن أنه الدّرج الأعلى... هي تحمل مفاتيحها إذن في الجيب الأيمن... والمفاتيح كلها كتلة واحده تضمها حلقة من الفولاذ... بين المفاتيح مفتاح مسنّن الرأس أكبر من غيره ثلاث مرات، ولكن من الواضح أنه ليس مفتاح الخزانة...إذن هناك أيضا سحارة أو صندوق صغير... هذا أمر هام. إن لجميع الصناديق مفاتيح من هذا النوع... على كل حال هذا كله كريه بشع...»
وعادت العجوز.
_خذ يابني. إذا كانت الفائدة عشرة كوبيكاً عن كل روبل في الشهر تقتطع سلفاً، فإن الفائدة عن روبل ونصف روبل تكون خمسة عشر كوبيكاً. يضاف إلى ذلك عشرون كوبيكاً عن الروبلين اللذين اقترضتهما في المرة الماضية على أساس تلك الفائدة نفسها، فيكون مجموع مايجب اقتطاعه خمسة وثلاثين كوبيكاً، فيبقى لك عن رهن الساعة روبل وخمسة عشر كوبيكاً. إليك المبلغ.
_كيف؟ ألا يبقى لي إلا روبل وخمسة عشر كوبيكاً؟
_تماماً
لم يناقشها الفتى، وتناول المال، وكان ينظر إلى العجوز ولا يستعجل الخروج، كأنما كان يريد أن يقول شيئا، أو أن يفعل شيئا، دون أن يدري ما هو هذا الشيء على وجه الدقة... وقال لها أخيراً:
_ربما جئتك بشيء آخر في الأيام القليلة القادمة يا أليونا ايفانوفنا... هو شيء من فضة... شيء ذو قيمة... علبة سجائر... نعم، سأجيئك بعلبة سجائر متى ردّها إليّ صديق لي... ارتبك الفتى وصمت.
فقالت العجوز:
_طيب يابني... سنتكلم في الأمر في حينه.
قال لها الفتى بلهجة منطلقة على قدر المستطاع، وهو يتجه نحو حجرة المدخل:
_استودعك الله... أأنت إذن وحيدة في البيت دائما دون أن تكون أختك معك؟
_فيما يعنيك هذا يا بني؟
_لا يعنيني في شيء... انه مجرّد سؤال هكذا... دون هدف... فإذا انت... استودعك الله يا أليونا ايفانوفنا.
خرج راسكولنيكوف وهو فريسة اضطراب عميق ماينفك يزداد، حتى توقف عدة مرات مذهولاً أثناء هبوطه السلّم. فلما صار في الشارع آخر الأمر هتف يقول: «لا...هذه حماقة...هل يمكن حقا أن تكون فكرة شيطانية كهذه الفكرة قد ساورت ذهني؟ماةأقذر ما في قلبي إذن من وحل! ثم إن هذا كله وسخ جداً،مقزز جداً،قذر جداً! كيف أمكنني،خلال شهر بكامله،أن...»
ولكن الفتى لم يجد الكلمات التي كان يمكن أن تعبر عن حالته العصبية الرهيبة.إن الإحساس بالإشمئزاز الذي لا نهاية له والذي كان قد بدأ يجثم على صدره ويقبض قلبه  ويخنقه خنقاً أثناء ذهابه إلى مسكن العجوز قد بلغ الآن أبعاداً عظيمة وأخذ يتجلى بعنف شديد حتى صار الفتى لا يعرف كيف يتخلص من هذه النازلة التي ألمت به وهذا الحزن الذي عصف بقلبه، كان يمشي على الرصيف كالسكران لا يلاحظ حتى المارة الذين كان يصطدم بهم. ولم يعد إلى رشده إلا في الشارع التالي. فلما نظر حواليه لا حظ أنه أمام خمارة ينزل إليها النازل على سلّم يؤدي من الرصيف إلى القبو. وفي تلك اللحظة نفسها كان يخرج من الخمارة سكرانان يسند كل منهما الآخر، ويتبادلان الشتائم أثناء صعودهما السلّم. فلم يلبث راسكولنيكوف أن هبط إلى الخمارة دون تردد. لم يسبق له أن دخل خمارة في يوم من الأيام، ولكنه يشعر الآن بدوار في رأسه، كما أن ظمأً لا يطاق كان يعذّبه. اشتهى أن يشرب بيرة باردة، لا سيما وأنه كان يعزو ضعفه المفاجئ إلى الجوع أيضاً. جلس في ركن مظلم قذر مظلم أمام مائدة صغيرة متسخة بالدهن، وطلب بيرة فشرب كأساً أولى بشراهة فلم يلبث أن شعر بشيء من التخفف والراحه، وأصبحت أفكاره أوضح. قال لنفسه وقد ارتد إليه الأمل: « ذلك كله سخافات! لا داعي إلى القلق!  هو انزعاج جسمي لا أكثر!  فما أن يشرب المرء كأساً من بيرة وما أن يأكل قطعة من بسكويت حتى يشتد فكره ويقوى ذهنه وتتضح أفكاره وتترسخ عزيمته. أوه! ذلك كله باطل!..» ولكن رغم بادرة الإستخفاف هذه، كان راسكولنيكوف كمن تحرر الآن فجأة من حمل ثقيل: ها هو ذا شيء من فرح يتجلى منذ الآن في نظرته التي أخذت تطوف على الحضور بمودة وصداقة. ومع ذلك أحس، حتى تلك الدقيقة، إحساساً غامضاً بأن حالة التفاؤل التي صارت إليها نفسه حالة مرضية هي أيضاً.
لم يبق في الخمارة في تلك الساعة إلا عدد قليل من الناس. فبعد السكرانين اللذين التقى بهما على السلّم خرجت من الخمارة، دفعة واحدة، عصبة تتألف من خمسة شبان يجرون فتاة ومعهم أكورديون.
فما أن انصرفوا حتى عاد الهدوء إلى الخمارة، فأصبح المرء يحسّ بحرية أكبر. لم يبق في القاعة إلا شخص ثمل بعض الثمل، جالس أمام كأس البيرة، أغلب الظن أنه تاجر، ومعه رفيقه وهو رجل طويل سمين يرتدي قفطاناً قصيراً له لحية شائبة كان قد بلغ السكر منه كل مبلغ، فهو غافٍ فوق دكة، وهو يصفق بأصابعه من حين إلى حين كأنه يخرج من نومه على حين بغتة، ويأخذ يباعد ذراعيه، ويرجّح القسم الأعلى من جسمه، دون أن ينهض عن الدكة، مدمدماً بكلام سخيف، محاولاً أن يتذكر أبياتاً من الشعر عن هذا النوع:
لا عبت زوجتي طوال السنة
لا...عبت زوجتي طوا...ل السنة
أو قائلاً بعد أن يستيقظ من جديد:
حين مررت بشارع بودياتشسكايا
التقيت بصديقتي القديمة الطيبة
ولكن لم يشاركه أحد سعادته. حتى لقد كان رفيقه الصموت يرد على هذه الإنفجارات باتخاد وضع عدائي رياب. كان هنالك رجل ثالث يدل على أنه موظف صغير محال على التقاعد. كان هذا الرجل منزويا أمام كأسه يشرب من حين إلى حين، ويطوف ببصره على ما حوله، ويبدو عليه أنه يعاني هو أيضا حالة عصبية.

الجريمة والعقابحيث تعيش القصص. اكتشف الآن