دعنا من هذا على كل حال. ما فائدة تذكّر هذه الأمور الآن! تستطيع أن تتخيل طبعاً أن ابنتي صونيا لم تصب حظاً من تعليم. صحيح أنني حاولت، منذ أربع سنين، أن أعلّمها الجغرافيا والتاريخ العام، ولكنني لم أكن قوياً في هذا الميدان، وكانت تعوزني الكتب المناسبة من جهة أخرى، فإن الكتب القليلة التي كنت أملكها...هِم... أصبحت لا أملكها... لذلك توقفت دراسة ابنتي...وصلنا في الحديث عن سيروس،ملك الفرس...وبعد ذلك،حين بلغت ابنتي سن الرشد ، قرأت بعض الكتب الروائية ثم قرأت في الآونة الآخيرة، بواسطة السيد ليبزياتنيكوف، كتاب ليويس «الفزيولوجيا» هل تعرف هذا الكتاب؟ قرأته ابنتي بكثير من الإهتمام، حتى لقد قرأت لنا فقرات منه بصوت عالٍ. ذلك هو كل ما حصلته ابنتي صونيا من تعليم. والآن أتوجه إليك يا سيدي الكريم، فألقي عليك هذا السؤال بصفة شخصية تماماً: هل تستطيع فتاة فقيرة لكنها شريفة، هل تستطيع في رأيك أن تكسب مالاً كثيراً بالعمل الشريف؟ إنها لم تكسب خمسة عشر كوبيكاً في اليوم، إذا هي كانت شريفة وإذا هي لم تملك أية هبة خاصة، وهذا على شرط أن لا تترك العمل دقيقة واحدةً أيضاً. ثم إن مستشار الدولة، كلوبشتو، إيفان افانوفتش كلوبشتوك ــ هل سمعت عنه؟ ــ لم يكتف بأن لا يدفع لها أجرها عن ستة قمصان خاطتها له من قماش هولاندي، بل زاد على ذلك فطردها شرّ طردة وهو يقرع الأرض بقدمه ويصفها بأبشع النعوت، بحجة أن إحدى الياقات لم تكن على قياس عنقه، وأنها قصّتها مقلوبة. والصغار في أثناء ذلك جائعون...وكاترينا ايفانوفنا في أثناء ذلك تمشي غي الغرفة ذاهبة آيبة، عاقفة يديها، وقد أخذت البقع الحمراء تظهر على خديها، كما يحدث ذلك دائماً للمصابين بهذا المرض. قالت كاترينا ايفانوفنا لإبنتي صونيا: «يا عالة، انك تسكنين في غرفة دافئة ولا تزيدين هنا على أن تملئي بطنك طعاماً وشراباً!» كأن المسكينة قد اتيح لها أن تأكل وأن تشرب وهي لم تضع في فمها كسرة خبز منذ ثلاثة أيام! وكنت أنا راقداً... نعم... فعلاً... كنت راقداً سكران... وها أنا ذا اسمع ابنتي صونيا تتكلم «إنها عزلاء، لاتملك عن نفسها دفاعاً... ماأعذب صوتها هي شقراء كل الشقرة... ووجهها شديد الشحوب والنحول دائماً» قالت: «أحقا يا كاترينا ايفانوفنا، أحقاً تريدين أن أعد نفسي لمثل هذا الأمر؟» والموضوع أن داريا فرانتسوفنا، وهي امرأة سيئة النيات تعرفها الشرطة جيداً، كانت قد استَعلمت عن صونيا ثلاث مرات بواسطة صاحبة البيت. أجابت كاترينا ايفانوفنا وهي تضحك ساخرة:«هه! ألا أن كنزاً كهذا الكنز ليستحق أن تحافظي عليه!»ولكن لا تتهمها، لا تتهمها يا سيدي الكريم، لا تتهمها! لم تكن تتكلم هادئة النفس مالكة وعيها... لقد كانت محطمة الأعصاب مريضة وصغارها يبكون جوعاً. ثم إننا لا يجوز لنا أن نفهم أقوالها بمعناها الحقيقي، وإنما يجب أن نفهم هذه الأقوال على أنها إهانة فحسب... ذلك هو طبع كاترينا ايفانوفنا: حين يبكي أولادها، ولو من الجوع، فإنها تأخذ، تضربهم فوراً. وها أنذا، قبل الساعة السادسة بقليل، أرى صونيتشكا تنهض فتتناول وشاحها وبرنسها وتخرج، ثم تعود قبل الساعة التاسعة. فلما دخلت مضت إلى كاترينا ايفانوفنا قدماً فوضعت أمامها على المنضدة ثلاثين قطعة نقدية من فئة الروبل، ثم لم تزد، حتى دون أن تنظر إليها، ودون إن تقول كلمة واحدة، ثم تزد على أن تناولت الشال الكبير الأخضر المصنوع من صوف خفيف «نعم، عندنا شال من هذا النوع نستعمله جميعاً»، فغطت به رأسها ووجهها تماماً، ورقدت على السرير متجهة بوجهها نحو الحائط، فكنا لا نرى إلا ارتجاف كتفيها وارتعاش جسمها... وكنت ما أزال على حالتي تلك نفسها... فرأيت عندئذ، أيها الفتى، رأيت كاترينا ايفانوفنا تقترب، دون أن تقول كلمة واحدة هي أيضاً، من سرير ابنتي صونيتشكا، وتظل هنالك طوال السهرة راكعة عند قدميها تقبلها ولا تريد أن تنهض. وبعد ذلك، بعد ذلك، رأيتهما تنامان معاً متعانقتين... معاً... كلتيهما... وكنت أنا راقداً.... على حالة السكر تلك ذاتها...
صمت مارميلادوف كأنه صوته قد تقطع، ثم ملأ كأسه فجأة وبسرعة فأفرغه في جوفه، ودلك حلقه، وتابع يقول بعد لحظة صمت:
_ومنذ ذلك الحين يا سيدي، على أثر ظرف تعيس ونتيجة لوشاية أشخاص أشرار، ولا سيما داريا فرانتسوفنا، بحجة أننا لم نراعها، اضطرت ابنتي صوفيا سيمينوفنا أن تكون ذات بطاقة صفراء وأن تتركنا تبعاً لذلك، لأن صاحبة البيت، آماليا فيودوروفنا، لم تشأ أن تحتمل هذا الوضع «مع أنها كانت قد ساعدت داريا فرانتسوفنا في ذلك الأمر في الماضي»، وكذلك السيد ليبزياتنيكوف... حول موضوع صوفيا هذا إنما جرت تلك الحكاية بينه وبين كاترينا ايفانوفنا. ففي بداية الأمر كان هو نفسه قد تناول التقرب من صونيتشكا والتماس الحظوة بها، ثم ها هو ذا يثور قائلاً: «كيف يمكنني،أنا الرجل المستنير،أن أعيش في نفس المسكن الذي تعيش فيه هذه ال...» ولكن كاترينا ايفانوفنا لم تستسلم، بل تدخلت... فحدث ما حدث. والآن تزورنا صونيتشكا من حين إلى حين «بعد هبوط اليل»، فتساعد كاترينا ايفانوفنا وتمدها باللازم... إنها تقيم في مسكن الخياط كابرناؤموف الذي استأجرت غرفة عنده. و كابرناؤموف، عدا أنه يعرج و يثأثئ، له أولاد كثيرون يثأثؤن جميعا كذلك. وامرأته تثأثئ أيضاً... إنهم يسكنون جميعاً في حجرة واحدة. ولكن صوفيا لها حجرة خاصة بها وراء حاجز... هم... نعم... أناس لا يتصور للمرء أن يكون في العالم من هم أفقر منهم... وهم إلى ذلك ثأثاؤون... نعم... ونهضت في ذات صباح، فارتديت أسمالي البالية، ورفعت ذراعي نحو السماء مبتهلاً، ثم ذهبت إلى عند صاحب السعادة ايفان آفاناسييفتش. هل تعرف صاحب السعادة ايفان آفاناسييفتش؟ لا تعرفة؟ إذا فأنت لا تعرف إنساناً قلبه الله،هذا رجل نقي نقاء الشمع، نقاء شمع بكر أمام وجه الرب... والشمع يذوب... وقد ذاب هو دموعاً بعد أن تفضل فأصغى إلى كلامي حتى النهاية. فلما فرغت من حديثي قال لي: «اسمع يا مارميلادوف، لقد خيبت ظني مرة... ولكنني سأوظفك هذه المرة أيضاً، على مسؤوليتي الخاصة ــ تلك كانت أقواله ــ فتذكر هذا. لأن في وسعك أن تتصرف». قبّلت موطئ قدميه ــ بالخيال طبعاً، لأن هذا الموظف الكبير الذي آمن بالأفكار الجديدة على صعيد الدولة والثقافة ما كان له أن يسمح لي بأن أقبّل موطئ قدميه بالفعل. وعدت إلى مسكني. فلما زففت إليهم بشرى أنني سأعود إلى وظيفتي وأنني سأتقاضى راتباً... آه... رباه... لا أستطيع أن أصف لك ما حدث...
صمت مارميلادوف من جديد، مضطرباً أشد الإضطراب. وفي تلك اللحظة دخلت عصبة كبيرة من السكارى آتية من الشارع، وعلى عتبة الخمارة دوت أصوات أرغن يدوي استؤجر لهذه المناسبة، كما دوى صوت نحيل هو صوت طفل في السابعة من العمر كان يغني أغنية «القرية الصغيرة». ضجت القاعة بالصخب. وأسرع صاحب الخمارة والخدم يهتمون بالقادمين الجدد، ولكن مارميلادوف تابع سرد قصته دون أن ينتبه إلى أحد. كان يبدو وكأن الخمرة قد حطمته وسحقته، ولكن كلما ازداد سكره ازداد تدفقه في الكلام. أن ذكرى النجاح الأخير الذي أصابه مسعاه قد أنعشته بعض الإنعاش، حتى لقد أضفت على وجهه نوعاً من الإشراق والإشعاع. وكان راسكولنيكوف يصغي إليه بانتباه...
_حدث ذلك منذ خمسة أسابيع يا سيدي... نعم... فما أن علمت كاترينا ايفانوفنا و صونيتشكا بالنبأ حتى حدث ــ يا رباه! ــ ما يشبه أن أكون قد انتقلت إلى السماء. قبل ذلك كنت ألبث راقداً على الأرض كبهيمة وأتلقى الشتائم وأبلعها! أما الآن فإنهما تسيران على رؤوس الأصابع ،وتسكتان الأولاد قائلتين: « لقد تعب سيميون زاخارتش اليوم في مكتبه، فهو الآن يستريح... هست! » وصرت قبل أن أذهب إلى عملي، أؤتي بالقهوة وتسخّن لي القشدة. صارتا تستطيعان الحصول على قشدة... حقيقة... هل تسمع؟ وأين أمكنهما الحصول على أحد عشر روبلاً وخمسين كوبيكاً لتجهزاني تجهيزاً لائقاً؟ ذلك أمر لم أفهمه في يوم من الايام. حذاءان، بزة رسمية، قمصان ممتازة... لقد اشترتا هذه الأشياء كلها بأحد عشر روبلاً وخمسين كوبيكاً، وجعلتاها حسنة المظهر لائقة. ماذا رأيت عند أول صباح عدت فيه من المكتب؟ أعدّت كاترينا ايفانوفنا طبقين، حساء ولحم بقر مملحاً من فجل حار، وذلك أمر لم يحدث قبل ذلك في يوم من الأيام. ثم إنها لم تكن تمتلك ما تدّثر بها ظهرها... لم تكن تملك أي شيء يمكن أن يسمى دثاراً للظهر... فها هي ذي في ذلك الصباح مرتدية أجمل حلة، كأنها كانت ذاهبة إلى زيارة. وليس لباسها جديداً ولكنها تستطيع أن تخلق من العدم شيئا. كانت وقد صففت شعرها تصفيفاً جميلاً وأحاطت جيدها بباقة صغيرة بيضاء، وزينت ذراعيها بكمين لطيفين، قد أصبحت إنسانة أخرى تبدو أصغر سناً وأحسن رونقاً وألطف جمالاً! أما صونيتشكا، يمامتي الصغيرة، فقد اكتفت بتقديم المال، وقالت: «ولكنني أنا لن أستطيع أن أجيء إليكم الآن كثيراً، فذلك ليس بلائق، وإنما أجيء إليكم عند هبوط الليل، حتى لا يراني أحد». هل تسمع؟ هل تسمع؟ وبعد الغداء مضيت أرقد على السرير. فهل تصدق؟ إن كاترينا ايفانوفنا لم تطق صبراً. لم يكن قد انقضى على تشاجرها مع آماليا فيودوروفنا صاحبة البيت إلا أسبوع في أكثر تقدير، ومع ذلك دعتها إلى تناول فنجان من القهوة. وقضتا ساعتين كاملتين تتهامسان دون توقف. قالت لها: « إن سيميون زاخارتش له الآن وظيفة، وهو يقبض الآن راتباً. لقد ذهب بنفسه إلى صاحب السعادة، وهب صاحب السعادة نفسه إلى لقائه: جعل جميع الناس ينتظرون، وأمام جميع الناس تناول يد سيميون زاخارتش وقاده إلى مكتبه (هل تسمع؟ هل تسمع؟) وقال له صاحب السعادة: إنني أتذكر بالطبع خدماتك الطيبة يا سيميون زاخارتش، ورغم انقيادك لميلك الطائش، وما دام كل شيء، من جهة أخرى، قد طرى هنا أثناء غيابك مقلوباً (هل تسمع؟ هل تسمع؟)، فإنني آمل أن تفي الآن بوعدك وأن لا تخون العند الذي تقطعه على نفسك». الحق أن هذا كله إنما اخترعته اختراعاً وارتجلته ارتجالاً ــ أنا أقول لك الآن ذلك ــ ولكنها لم تعمد إلى هذا الإختراع والتلفيق انسياقاً مع ميول صبيانية، ولا حبا في إظهار قيمتها وإعلاء شأنها. بالعكس: لقد صدقت هي نفسها كل ماتخيلته، وما كان أعظم تلذذها به... قسماً بالرب! وأنا لا ألومها... لا... أنا لا ألومها على هذا... وحين أتيتها براتبي الأول كاملا منذ ستة أيام ــ ثلاثة وعشرين روبلاً وأربعين كوبيكاً ــ نادتني بقولها: ياحبيبي... خاطبتني قائلة « ما أجملك ياحبيبي!» قالت لي هذا وكنا في خلوة، هل تفهم؟ وهل أنا زوج على كل حال؟ ولكنها قرصت خدي وقالت لي: « ما أجملك ياحبيبي!».
انقطع مارميلادوف عن الكلام، وأراد أن يبتسم، ولكن ذقنه أرتجفت فجأة. ومع ذلك كبح جماح نفسه. وها هي ذي الخمارة، وسقوط هذا الرجل، وحبه المريض لإمرأته وأسرته كلها، ولليالي الخمس التي قضاها على العوّامات ناقلات العلف، ومنظر الزجاجة، ها هي تلك الأمور كلها تغرق راسكولنيكوف في ذهول. كان يصغي بأكبر إنتباه ممكن، ولكنه أحسّ بضيق وانزعاج. ولام نفسه على أنه جاء إلى هذا المكان.
صاح مارميلادوف يقول وهو يتمالك نفسه:
_أيها السيد الكريم، أيها السيد الكريم، ربما كانت هذه القصة تضحكك كما تضحك الآخرين، ولعلني لا أزيد من تفاصيل حياتي المنزليه. ولكن هذا كله لا يضحكني أنا، لأن هذا كله إنما أحسه أنا بكل جوارحي. لقد قضيت ذلك النهار كله وتلك السهرة كلها وأنا في مثل الجنة أطير على أجنحة أحلامي. كنت أفكر في الطريقة التي سأدبر بها الأمور: كيف سأكسو هؤلاء الأولاد، كيف سأهيئ لها هي الهدوء والسكينة والطمأنينة، كيف سأنتزع ابنتي الوحيدة من رهدة العار وأردها إلى أحضان الأسرة... وكنت أحلم بأشياء أخرى أيضا، بأشياء كثيرة جداً. ذلك مسموح به لي يا سيدي. وبعد ذلك أيها السيد. (هنا ارتعش مارميلادوف فجأة، ونصب رأسه وحدّق إلى محدثه) بعد جميع تلك الأحلام الجميلة(أي منذ خمسة أيام على وجه الدقة) أي في مساء اليوم التالي عمدت إلى أنواع الحيل والأكاذيب، فسرقت من كاترينا ايفانوفنا مفتاح صندوقها، كلصٌ الليل، فأخذت ما كان قد بقي من أجري الذي أعطيتها أياه... لا أدري كم كان كان المبلغ تماماً... نعم، ذلك ماحدث... انظر أين أنا الآن... انظروا جميعاً... لقد تركت البيت منذ خمسة أيام. وهم هناك يبحثون عني. ولقد فقدت وظيفتي، وبقيت بزتي الرسمية مرهونة في خمارة، على مقربة من «الجسر المصري» فحصلت على هذه الثياب... كل شيء انتهى! لطم مارميلادوف جبهته بقبضة يده، وكزّ أسنانه، ثم أغمض عينيه واستند بكوعه إلى المائدة استناداً قوياً. ولكن وجهه تغير بعد دقيقة تغيراً مفاجئاً مباغتاً، فإذا هو بنوع من المكر والقاحة المتظاهرة إنما ينظر الآن إلى راسكولنيكوف. ثم أخذ يضحك وقال:
_واليوم ذهبت إلى صونيا أطلب منها مالاً... لأشرب قليلاً من أجل تخفيف وجع رأسي... ها ها ها!...
صاح يسألة أحد القادمين الجدد وهو يضحك ملء حلقه:
_وهل أعطيتك مالاً؟
قال مارميلادوف متجهاً بكلامه إلى راسكولنيكوف وحده: لقد جاءتني صونيا بثلاثين كوبيكاً قدمتها إلىّ بيديها نفسها. وكان هذا المبلغ كلّ مابقي لها... رأيت ذلك بنفسي. لم تقل شيئاً، اكتفت بأن نظرت إليّ صامتة... نظرت إليّ لا كما يكون النظر في هذه الحياة الدنيا، بل في الحياة الآخرة، في السماء، حيث لا يوقظ الأشقياء في قلوب إلا عاطفة الشفقة، حيث يبكي الناس على هؤلاء الأشقياء دون أن يوجهوا إليهم كلمة تقريعّ وحين لا يقرّعك أحد، فإنك تشعر بألم أشد و عذاب أقوى! نعم! تشعر بألم أشد و عذاب أقوى! ثلاثون كوبيكاً... نعم.... ولكنها كانت في حاجة إلى هذه الثلاثين كوبيكاً. ها؟ أليس كذلك يا سيدي الكريم؟ عليها الآن أن تعتني بنفسها، وأن تهتم بنظافتها. والنظافة، تلك النظافة، تكلف نفقات كثيرة، هل تفهم؟ هل تفهم؟ هناك دهون يجب أن تشتريها لتطيب بها... يستحيل عليها أن لا تفعل ذلك! وهناك التنورات المتصلبة، والأحذية الأنيقة التي تسمح باظهار القدم الصغيرة عند تجاوز بركة ماء بخطوة كبيرة! هل تفهم يا سيدي ماذا تعني نظافة كتلك النظافة؟ وها أنذا، أنا أبوها، اختلس الثلاثين كوبيكاً التي تملكها لأشرب بها خمراً. لقد أنفقت ذلك المبلغ فعلاً في الشراب!.. فمن ذا الذي يستطيع أن يرثي لحال رجل مثلي؟ هل ترثي لحالي أنت الآن يا سيدي؟ هل ترثي لحالي؟ تكلم يا سيدي، تكلم: أترثي لحالي أم لا؟ هئ هئ هئ هئ!..
قال مارميلادوف ذلك وأراد أن يصب في كأسه خمراً، ولكن الخمر كان قد نفد... كانت الزجاجة فارغة!
وكان صاحب الخمارة قد اقترب مرة أخرى، فهتف يسأله:
_فيم عسى يرثي الناس لحالك؟
وسمعت ضحكات وشتائم. كان يطلق الضحكات والشتائم أولئك الذين سمعوا القصة كلها وأولئك الذين لم يسمعوا شيئاً البتة ولكنهم ينظرون إلى الرجل الذي كان موظفاً.
زأر مارميلادوف فجأة، وهو ينهض، ماداً ذراعيه إلى أمام، وقد وافاه إلهام حقيقي، كأنه لم يسمع إلا تلك الكلمات، زأر يقول:
_لماذا عسى يُرثى لحالي؟ أهذا ماتقوله؟ نعم، ليس هناك مايدعو إلى الرثاء لحالي! وإنما ينبغي أن أُصلب، أن أصلب على الصليب لا أن يرثى لحالي! ولكن أُصلبه، أيها القاضي، ثم ارث لحاله بعد أن تصلبه.
وعندئذ سأمضي إليك بنفسي، أواجه العذاب مواجهة، لأن ظمئي ليس إلى الفرح، بل إلى حزن ودموع! أتراك تظن أيها البائع أن هذه الزجاجة التي اشتريتها منك قد جائتني بالفرح وحملت إليّ المسرة؟ ألا إن الألم، ألا إن الألم هو ماكنت أنشده في قرارة تلك الزجاجة... نعم... الألم والدموع!... ولقد ذقت فيها الألم، لقد وجدت فيها ما كنت أنشده! ولكن ذلك الذي يشفق على جميع الناس ويرأف بجميع الناس، سيشفق علينا، وسيرأف بنا... لأنه يدرك كل شيء. إنه هو الواحد الأحد. إنه هو القاضي الأعلى. سيظهر في يوم الحساب فيسأل: «أين هي تلك الفتاة المسكينة التي ضحت بنفسها في سبيل أمرأة أبيها الشريرة المصدورة، في سبيل صغار امرأة أخرى؟ أين هي تلك الفتاة المسكينة التي أشفقت على أبيها الدنيوي، السكّير الذي لا برء له، دون أن تدع لنفسها أن تشمئز من حيوانيته؟» وسوف يقول لها:«تعالي! لقد سبق أن غفرت لك مرة... سبق أن غفرت لك مرة... والآن أعفو عن جميع خطاياك، لأنك أحببت كثيراً»... وسيغفر لها، سيغفر لإبنتي العزيزة صونيا... أنا أعلم أنه سيغفر لها... شعر قلبي بهذا حين كنت عندها منذ قليل... وسوف يحكم عليهم جميعاً. سيغفر للأخيار والأشرار، سيغفر للحكماء والبسطاء على سواء. حتى إذا فرغ من الجميع، خاطبنا نحن أيضاً فقال: «تعالوا، تعالوا أنتم أيضاً أيها السكّيرون، تعالوا أيها الضعفاء، تعالوا أيها الفاسقون!» سنقترب منه جميعاً، دون شعور بالخزي والعار وسنقف أمامه، وسيقول لنا: «أنتم خنازير! قد خلقتم على سورة الوحش،ودمغتم بخاتمه! ومع ذلك تعالوا» وسيقول الحكماء عندئذ، سيقول العقلاء: « كيف يا رب؟ كيف تستقبلهم هم أيضاً؟» فيجيبهم: «أنا أستقبلهم أيها الحكماء، أنا أستقبلهم أيها العقلاء، لأن أحداً منهم لم يحسب أنه جدير بأن يُستقبل!» وسوف يدرك جميع الناس عندئذ كل شيء... وسوف تفهم كاترينا ايفانوفنا هي نفسها... فليأت ملكوتك أيها الرب!
انهارت قوى مارميلادوف، فتهاوى على الدكة، دون أن ينظر إلى أحد، أحد، كأنه قد غرق في أحلام عميقة فنسي كل ما كان يحيط به.
وأحدثت كلماته أثراً. فساد الصمت خلال دقيقة. ولكن القهقهات والشتائم لم تلبث أن عادت تدوي.
_هو يثرثر!
_موظف!
الخ، الخ...
وقال مارميلادوف فجأة وهو يرفع رأسه مخاطباً راسكولنيكوف:
_هيا بنا يا سيدي رافقني إلى عمارة كوزيل... إلى الفناء... لقد آن الأوان... خذني إلى كاترينا ايفانوفنا!
كان راسكولنيكوف يتمنى منذ مدة طويلة أن ينصرف. وخطر بباله من تلقاء نفسه أن يساعد مارميلادوف. وقد ظهر مارميلادوف أشد وهناً وأضعف قدرة على القيام على ساقيه مما كان في خطابه. اتكأ مارميلادوف اتكاء ثقيلاً على الشاب. وكان ينبغي قطع مسافة مائتي خطوة أو ثلاثمائة خطوة. إن القلق والخوف يجتاحان السكّير بمزيد من القوة والعنف على قدر اقترابه من منزله.
ودمدم يقول منفعلاً:
_ليس خوفي من كاترينا ايفانوفنا. لست خائفاً لأنها ستشدني من شعري. ماقيمة شعري؟.. شعري لا يهمني. أنا أقول لك ذلك.. والأفضل أن تشدني من شعري... لا... ليس هذا مايخيفني... إنما أنا أخاف عينيها... نعم... أنا أخاف عينيها... والبقع الحمراء في خديها... أخاف منها أيضاً... وأخاف أيضاً تنفسها... هل لاحظت كيف يتنفس المصابون بذلك المرض حين تثور ثائرتهم؟ وأنا أخاف كذلك من الأولاد، حين يبكون. ذلك أن من الجائز أن لا تكون صونيا قد أعطتهم ما يأكلون... لست أدري... لست أدري الآن...أما الضربات فلا أخافها... اعلم أيها السيد أن هذه الضربات لا تقتصر على أنها لا تؤلمني، وإنما هي تهيئ لي لذة في بعض الأحيان... لأنني لا أستطيع الإستغناء عنها. ذلك أفضل! ألا فلتضربني!!.. ألا فلتخفف عن نفسها!.. ذلك أفضل... هذه هي العمارة، عمارة كوزبل... هو قفّال، قفّال ألماني غني جداً. ادخل معي.
اجتازا الفناء، وصعدا إلى الطابق الرابع، وكان ظلام السلم يزداد حلكة كلما تقدما في الصعود. الساعة أوشكت على الحادية عشرة، ورغم أن مدينة بطرسبرج ليس لها ليل حقيقي في مثل هذه الفترة من العام، فقد كانت الظلمة حالكة في آخر السلم.
في أعلى السلّم كان باب صغير مدخّن مفتوحاً. وكان هنالك بقية شمعة تضيء أفقر غرفة في المسكن، طولها عشر أقدام. إن المرء يرى الغرفة كلها من فسحة السلّم. إن فوضى قصوى تسودها، وإن أشياء لا حصر لأنواعها ملقاة على أرضها، ولاسيما أسمال أطفال. وفي ركن من الغرفة هو آخرها، قد شُدّت ستارة رثة لعل وراءها سريراً، ولم يكن في الغرفه نفسها إلا كرسيان، وأريكة منجدة بقماش مشمّع بال رث، أمامها مائدة مطبخ عتيقة من خشب الصنوبر ليست مدهونة، لا وليس عليها غطاء. وفي آخر المائدة كانت بقية شمعة توشك أن تذوب كلها ،قد غرست في شمعدان من حديد. إن جميع المظاهر تشير إلى أن مارميلادوف لا يحتل في هذا المسكن ركناً من أركانه، بل غرفة مستقلة هي في الواقع ممر أو دهليز. وكان الباب الذي يفضي إلى الغرف الأخرى، أو قل إلى العلب الآخرى التي يتألف منها بيت آماليا ليبيفكسل، كان الباب مشقوقاً، وكانت تصل منه جلبة وصيحات. كان الموجودون هناك يضحكون مقهقهين. يبدو أنهم يلعبون بالورق وهم يحتسون الشاي. وكان يستطيع المرء أحياناً أن يلتقط وسط الصخب ألفاظاً ليس فيها كثير من الآدب لم يلبث راسكولنيكوف أن تعرّف كاترينا ايفانوفنا. هي امرأة نحيلة نحولاً رهيباً، طويلة القامة، حسنة الهيئة. ومايزال لها شعر كستنائي اللون رائع، وكان على خديها بقعتان حمراوان فعلاً. إنها تسير في الغرفة الصغيرة ذهاباً وإياباً، وقد شدّت يديها إلى صدرها تضغطه بهما، وكانت شفتاها يابستين وأنفاسها قصيرة مقطّعة، وكانت عيناها تسطعان ببريق محموم، ولكن نظرتها حادة ثابتة. إن هذا الوجه المنفعل الذي التهمه مرض السل يحدث مرآه على ضوء الشمعة الصغيرة الذائبة المتراقص أثراً في النفس أليماً. قدّر راسكولنيكوف أنها في الثلاثين من العمر. ماهي في الحق بالمرأة التي تصلح زوجه لمارميلادوف. لم تنتبه إلى وصولهما. ولا سمعت وقع خطواتهما. كانت غارقة في نوع من الخيال. فهي لا ترى شيئاً ولا تسمع شيئاً. إن حراً خانقاً يسود جو الغرفة، ومن أدنى السلّم كانت تتصاعد رائحة كريهة. ومع ذلك لم تغلق الباب المطل على السلم. ومن خلال الباب الآخر كانت تصل سحب من دخان التبغ، فكانت تسعل ومع ذلك لم تغلق هذا الباب الثاني أيضاً. وكانت صغرى البنات. وهي طفلة في السادسة من عمرها، نائمة على الأرض قعوداً، وقد تكببت على نفسها وأسندت رأسها إلى الأريكة. وكان الصبي الصغير، وهو أكبر منها بسنة واحدة، يرتعش ويبكي في ركن من الأركان: لاشك أنه قد ضُرب منذ قليل. أما البنت الكبرى، وهي طفلة في نحو التاسعة من العمر، طويلة نحيلة كعود ثقاب، فكان كل ما يكسوها قميصاً. رديئاً قد تمزق وتخرق في كل ناحية، ورداء عتيقاً من صوف خفيف رديئاً قد ألقي على كتفيها العارينتين، ولعله كان يناسب حجم جسمها منذ سنتين، أما الآن فهو لا يكاد يصل من قامتها إلى الركبتين. وكانت البنت واقفة في الركن تضم إليها أخاها الصغير، وتحيط عنقه بذراعها الطويلة النحيلة.
يبدو أنها كانت تحاول أن تسرّي عنه، فهي تكلّمه بصوت خافت جداً، رجاء أن لا يستأنف بكاءه، ولكنها كانت في الوقت نفسه تتابع أمها وقد امتلأت رعباً، تتابعها بعينيها الواسعتين القاتمتين اللتين تبدوان واسعتين مزيداً من السعة في هذا الوجه الهزيل المرتاع. لم يدخل مارميلادوف الغرفة، بل ركع على العتبة، ودفع راسكولنيكوف ألى الأمام. فلما رأت المرأة هذا الشاب المجهول، وقفت أمامه ذاهلة، ثم خرجت من تأملها لحظة، ربما لتحاول أن تفسر لنفسها سبب مجيئه. ولكن لابد أنها لم تلبث أن اعتقدت أنه ذاهب إلى سكان آخرين من سكان البيت، لأن الغرفة ممر إلى الغرف الأخرى. فلما وصلت إلى هذه النتيجة، اتجهت نحو باب الدهليز تريد أن تغلفه دون أن تهتم بالقادم، فإذا هي تصرخ على حين فجأة، لأنها اكتشفت زوجها الراكع على الأرض.
صاحت تقول وقد بلغت ذروة الغضب:
_آ... ها أنت ذا عدت! يا لص، يا شيطان، يا وسخ! أين المال؟ ماذا في جيبك؟ أرني!.. وهذا اللباس الذي ترتديه ليس لباسك، فأين رداؤك إذن؟ أين المال؟ تكلم!
قالت ذلك وهجمت عليه لتنبش جيوبه. فسرعان ما باعد مارميلادوف ذراعيه خاضعاً طيعاً بغية أن يسهل عليها تفتيش جيوبه. ولم يكن في جيوب مارميلادوف كوبيكاً واحداً.
هتفت تقول:
_أين المال؟ آه... يارب!.. هل يمكن أن يكون قد شرب خمراً بالمال كله؟ كان مايزال في الصندوق اتنا عشر روبلاً مع ذلك..
وألمت بها ثورة مسعورة من الغضب على حين فجأة، فأمسكت بشعرع، وجرّته إلى الغرفة. وسهّل هو عليها هذه المهمة، فكان يزحف على ركبتيه وراءها طائعاً ذليلاً.
صاح يقول بينما كان يُجرّ من شعره حتى لتصطدم جبهته مرةً بأرض الغرفة:
_هذه لذة بالنسبة اليّ! ليس هذا ألماً يا سيدي الكريم بل لذة!
واستيقظت البنية التي كانت نائمة على الأرض، وأجهشت تبكي.
ولم يتمالك الصبي الصغير نفسه فأخذ يرتعش ويصرخ وهرع نحو أخته مروّعاً تكاد تجتاحه نوبة عصبية.
وكانت البنت الكبرى ترتجف بعد النوم كورقة في مهب الريح.
صاحت المرأة المسكينة تقول:
_شرب بالمال كله، شرب بالمال كله. حتى رداؤه ليس رداءه! إنهم يتضورون جوعاً، يتضورون جوعاً.
قالت ذلك وهي تلوي يديها وتشير إلى الأولاد، ثم أردفت:
_لعن الله هذه الحياة، لعن الله هذه الحياة!
وزأرت تخاطب راسكولنيكوف وهي ترتمي عليه فجأة:
_وأنت أيضاً خارج من الخمارة عليك أن تخجل! شربت معه، أليس كذلك؟ أنت أيضاً... شربت معه... اخرج من هنا!
فأسرع الشاب يخرج دون أن يقول كلمة واحدة. وفي أثناء ذلك كان الباب قد فتح على كل سعته، وظهر في فرجته عدد من المستطلعين.
كانوا يمدون رؤوسهم الوقحة الضاحكة، وقد وضعوا عليها طاقياتهم، وهم يدخنون سجائر أو غلايين. وكانت ترى قامات ترتدي معاطف المنازل مفتوحة أو ملابس صيفية ليس فيها شيء من احتشام. وكان بين المستطلعين أناس يحملون بأيديهم ورقاً من ورق اللعب، وقد ضحكوا خاصة حين جرّ مارميلادوف من شعره، فصرخ يقول إن هذه لذة له.
حتى لقد دخلوا الغرفة وسمعت أخيراً وعوعة غاضبة حانقة: إنها آماليا ليبفكسل بنفسها قد شقت ممراً بين الجمهور لتعيد الهدوء، بطريقتها الخاصة، ولترهب المرأة المسكينة بإبلاغها، للمرة المائة، بأن عليها إخلاء المسكن منذ الغد. اتسع وقت راسكولنيكوف، قبل أن ينصرف، لأن يدرس يده في جيبيه فيخرج منه جميع النقود النحاسية التي بقيت له من الروبل الذي صرفه في الخمارة، وأن يضع هذه النقود خفية على حافة النافذة. فلما صار غي السلم، عدل عن رأيه، وأراد أن يرجع أدراجه.
قال يحدث نفسه: «حماقة مافعلت!.. هم لهم صونيا، وأنا في حاجة إلى مال». ولكنه رأى أن من المستحيل عليه أن يسترد الصدقة التي أعطاها، وأنه لن يستردها ولو لم يكن استردادها مستحيلاً، فأشاح بيده واتجه نحو مسكنه. وتابع حديثه مع نفسه أثناء سيره في الشارع وهو يبتسم ابتسامة ساخرة: «حقاً إن على صونيا أن تشتري أطياباً تتدهن بها... إنها تكلف ثمناً باهظاً، تلك النظافة... هم... ولكن من الجائز جداً أن يصيبها اليوم إفلاس... إن هذه المهنة معرّضة لمخاطر كثيرة، كصيد الوحوش ذات الفراء الثمين والبحث عن مناجم الذهب سواء بسواء... فبدون هذا المال الذي نفحتهم إياه يمكن أن يتضوروا جوعاً في الغد بلا كوبيك واحد. آه... يالك من صونيا!.. يالك من منجم اكتشفوه ويالها من فوائد يجنونها منه!.. ذلك أنهم يجنون من هذا المنجم فوائد! لقد اعتادوا أن يستفيدوا منه وأن ينتفعوا به! بكوا في أول الأمر، ثم ألفوا وتعودوا. إن الإنسان يعتاد كل شيء. ياله من حقير!»
ثم فكر. فإذا هو يصبح قائلاً رغم إرادته على حين فجأة:
_اذا لو كانت على ضلال! ماذا لو لم يكن الإنسان في حقيقة الأمر حقيراً... أعني الإنسان عامةٌ، أعني النوع الإنساني... سيكون معنى ذلك أن الباقي كله ليس إلا أوهاماً، ليس إلا مخاوف خيالية باطلة، وأنه ليس هنالك أي حد يجب الوقوف عنده. نعم، ذلك ما يجب.
![](https://img.wattpad.com/cover/290665939-288-k149485.jpg)