7

828 24 1
                                    



كان سكان الحي الذي تقطنهن الفتيات الثلاث يعرفوهن جيدا، كانوا يهتمون بهم عن بعد ولا يسمحون لأحد أن يتحدث عنهن بالشر أبدا؛ فقد تربين على أيديهم ويتيقنون حسن أخلاقهم وزينة تربيتهم، فبالرغم من سفر الأب إلى الخارج ولاحق الأم به بعدها إلا أن الفتيات لم تصدر عن إحداهن أي عمل مشين أو تصرف غير لائق.
كن على العكس؛ يساعدن من يحتاج المساعدة .. كانت مرام تذهب لتلك السيدة المسنة (زنوبه)، القاطنة في أول الحي، تجلس معها وتسليها بمزاحها .. تقرأ لها الرسائل التي كانت تأتيها من ابنها المسافر لإكمال تعليمه ومن ثم تزوج واستقر هناك دون التفكير في الأم الوحيدة التي خلفها خلفه، رأت مرام حزن السيدة المكلومة على إنقطاع حتى الرسائل من ابنها المنشغل بحياته الجديدة، نسي التي حملت به تسعة أشهر وحملته وهنا على وهن وفصاله في عامين، قلقت الأم أن يكون أصاب ابنها مكروه، فكرت مرام في كُنه المكروه الذي يُصيب شخص أكبر من العقوق الذي يعتبر ثانِ الكبائر بعد الشرك بالله مباشرة، وجدت حلا تخفف به عن زنوبه حزنها، فكانت تكتب الرسائل وترسلها لها على إنها من ولدها، لم تكن تعلم أن زنوبه تفهم حيلتها تلك فهي كانت تشم رائحة ابنها في الرسائل وتشعر بها بقلبها، هي أمية القراءة وليست أمية القلب، لم تخبر مرام بمعرفتها فقد كانت تستمتع بحب مرام لها وخوفها عليها وعلى حزنها، تداوم على حمدالله لأنه عوضها بتلك الفتاة بعد تخلي ولدها عنها.
هند، الفتاة التي تحب الأطفال والتعليم حبا جما، كانت تحلم أن تكون معلمة في صغرها ولكن ما إن شبت حتى تغيرت أحلامها مثل كثير من الفتيات فتحول حلمها أن تصبح سيدة أعمال مرموقة، ليس فقط لتثبت وجود المرأة ودورها في المجتمع لكن أيضا لتثبت أنها بالرغم من كونها متمسكة بدينها وملابسها المحتشمة ومعاملتها للجنس الآخر فقط في حدود العمل وما يسمح به ربها ستكون ناجحة بل وأكثر من أي امرأة أخرى؛ لأنها نالت نجاح الدنيا بعد نجاح الآخرة.
بدأت تحقق حلم طفولتها بتعليم أولئك الصغار الذين لا يملكون ما يكفيهم من أموال للذهاب إلى المدرسة، فكانت تجتمع بهم مرتين في الأسبوع في المنزل المهجور بنهاية الشارع الذي تقطنه مُعيدة له الحياة بفضل هؤلاء الأطفال الذين تتفتح عقولهم على يديها، كان ملك أحد الساكنين بالحي وتركه تعلم فيه الأطفال وكانت الفترة التي يتعلمون فيها لا تخلو من اللعب وخصوصا عند قدوم مرام، ولا من ذكر الله وحفظ آياته مع فريدة، فما لم ينكره أحد أن الحياة عادت للمنزل المهجور ليس فقط لوجود الأطفال ولكن لرضى الله عما يحدث داخله ولإن الملائكة تحيط المكان فرِحة لفرَحة الأطفال، أطفال راغبين في التعلم لكن لم يجدوا فرصة وما إن وجدوا أيدي مرام وفريدة وهند وصاحب المنزل تمتد لهم حتى تمسكوا بها كأنها طوق النجاة، نجاة من الجهل.
إنما هل يخلو أي عمل في هذه الحياة من المصاعب؟، لا، فالدنيا إذا خلت من المصاعب أصبحت نعيما وجنة، كيف لا يقف أمامهم مصاعب خصوصا أنه عمل خيري بحت .. فقد حاولت الشرطة القبض على الفتيات وذلك الرجل الفاضل الذي وهبهم منزله، بحجة أنهم لا يملكون ترخيص لتعليم الأطفال وعليهم الذهاب معهم إلى قسم الشرطة للتحقيق.
وقف جميع السكان ضد الشرطي ومن معه مانعين إياه من أن يقوم بهذا الفعل الدانئ، فكيف يكون مقابل الخير .. الشر ومقابل الحسنة .. السيئة، ظلوا يوضحون له ما حدث حتى أقتنع برأيهم وتركهم بل أيضا ساعدهم في استخراج الرخصة المطلوبة، أجتمع الحي فرحين فلقد أصبح لدى أبنائهم مدرسة يتعلمون فيها دون أن يقف بوجههم أحد، وكل من كان لديه طفل في سن دخول المدرسة ذهب لتلك المدرسة دليلا على مساندته لهم وتأييده لفكرتهم.
بدأت هند كل هذا وكانت صاحبة الفكرة الأساسية؛ فأصبح لها مكانة خاصة في قلوب كل من بالحي من صغيرهم إلى كبيرهم الذي تمنى أن يكون على زمنه من هم مثلها لعله وجد تلك الفرصة ليغير حياته بالعلم، تركت المدرسة لأنها وجدت نفسها لا تقارن بأولئك المتعلمين الذين يعرفون أنسب طريقة لمعاملة الأولاد فقد اعتبرت المدرسة مدرسة حكومية وبدأت الدولة ترسل إليها معلمين مختصين في جميع المجالات كما انشغلت بدراستها وكليتها تبغى النجاح بها.
أما فريدة الفتاة التي لا تختلف عن شقيقتيها بل بالعكس هي من علمتهم كيف يعطون دون مقابل؛ كانت تقول لهم دائما "طوبي للذين يعطون بدون التذكر .. يأخدوا دون أن ينسوا"، فعلى الرغم من أنها التحقت بكلية الطب البيطري إلا أنها لم تبخل بعلمها على الأخرين.
الفقير الذي يعيش على نقل الحمل بعربته "الكارو" يحتاج بشدة لحماره المتهالك، فكان كلما شعر أن حماره على وشك الهلاك يركض مسرعا إليها لتراه وتداويه من مالها الخاص وتهتم به، والمطلقة التي لديها خمسة أطفال تعتاش على تربية الطيور من حمام ودجاج وأوز وبط؛ لتجد ما يسد قوت صغارها بعد هجر زوجها لها ولهم فما إن تمرض واحدة من الطيور تطلب مساعدتها فبالنسبة لها طائر واحد يُحيي أطفالها جميعهم، وعندما تكون حالة الطائر ميئوس من شفائها .. تخبرها بوجوب بقاءه معها اليوم وستحضره في الغد، تحاول معه لكن شدة ضعفه أو مرضه يموت أحياناً، تسرع إلى البائع تحضر طائرا يشبهه وتذهب به إلى السيدة وتخبرها أنه أصبح بخير، تدعو لها السيدة بالصحة وان يعوضها بما يسعدها ويرزقها الجنة ... وغيرهم من حالات كانت تعلم قيمتها وأن علمها مفيد لهم فكان يكفيها اعتراف هؤلاء بدورها والغبطة التي شعرت بها عندما سمعت أحد أطفال تلك المرأة عندما أخبرها أنه يريد أن يصبح طبيبا للحيوانات مثلها .. هنا تتيقن أنها انتصرت لمجالها.
هذه كانت إحدى أسباب حب أهل الحي للفتيات، وعندما علموا بأن هناك من يتقدم لطلب إحدهن هللوا لها ودعوا لها بالخير وتمام الأمور، لما وصل العريس وأهله رأوا الأضواء تنير الحي، وخرج الرجال من دكاكينهم ليروا الشاب الذي سيخطف إحدى أجمل زهور الحي والتي كان يعتبرها كل منهم ابنته.
صعد العريس مع أهله وسط التهليل والزغاريط، جلسوا مع أهل العروس حتى تم الإتفاق على كافة الأمور المتعلقة بالزواج.
تم تحديد ميعاد عقد القران بعدها بأسبوع فهما يعرفان بعضهما جيدا بحكم العمل ولا حاجة إلى خطبة لزيادة التعارف، كذلك رغبة أحمد في وصول هند إلى منزله في أقرب وقت.
استدار أحمد إلى حميه: أنا بأقول يا عمي إن الدخلة تبقى بعد كتب الكتاب بشهر
انتفضت إيمان فزعة: شهر ؟!؟
تساءل أحمد ببراءة: إيه؟ كتير؟
ضحك ياسين على جهل ابنه وصحح له: لا قليل يا ابني
استهجن: قليل ؟! .. دا أنا كنت ناوي على كتب كتاب ودخلة بعد أسبوع على طول
غرقت مرام في نوبة من الضحك بصوت خفيض حاولة كتمها بينما تقف برفقة شقيقتيها خلف الستار يتابعون إجراءات الزواج وإتفاق الأهل: وجاي على نفسك كدا ليه
ضربتها فريدة على كتفها تحثها على الصمت حتى يستطيعون متابعة الحوار بينما سقط قلب هند في قدميها تخشى أن يُلغي والدها كل شيء على حين غرة.
اتسعت ابتسامة ياسين: الواد مستعجل أوي ع الجواز ما شاء الله
زمت إيمان شفتيها: بس كدا مش هنلحق نجهز حاجه
أسرع أحمد يُحل أزمتهم: انا مش عايزكوا تجهزوها .. لما نتجوز كل اللي نفسها فيه تجيبه
استنكر عبدالرحمن قوله بشدة فكأنه طعنه في مقدرته كأب في تلبية احتياجات بناته: ولو يا ابني ما يصحش! الأصول أصول
نادت صابرين على العروس لتحضر وسألتها: هند إنتي موافقة على بعد شهر دا؟ .. ومالكيش دعوة ببابا وماما إحنا هنتصرف معاهم
نظرت هند أرضا بخجل: اللي تشوفوه
هتفت صابرين منتصرة: ههههه يبقى موافقة
توجه ياسين بحديثه إلى والدها: قولت إيه يا عبد الرحمن؟
لمح في عيون ابنته سعادة لم يرها قبلا مما جعله يرضخ سعيدا فما يهمه غير راحتها، عقد النية داخله أن يُلبي احتياجاتها مهما كانت خلال الفترة المتاحة حتى تبقى معززة في منزل زوجها وأمام أهله، أجاب باسما بهدوء: قولت على بركة الله
تعجلهم العريس: يبقى نقرا الفاتحة
جلست هند بجوار والدها ورفعت كفيها أمام وجهها فيما شفتيها تتحرك بهدوء مرددة السورة، تعلقت نظراته بنظراتها عبر المسافات الفاصلة بين أصابعهم، تبسم بغبظة لم يذق لها طعما ألذ من هذه اللحظة فيما رمته هي ببسمة أطاحت بقلبه قبل أن تخفض بصرها أرضا.
أفاقا على صوت ياسين ووالدها يأمنون: آمـــــــــين.
***
بدأت هند في تجهيز نفسها بمساعدة ندى وأختيها، ما كان عليها إلا شراء بعض الملابس بينما تكفل أحمد بالبيت حيث يملك شقة خاصة والآن يُعدها على ذوقه الخاص الذي سيعجب هند كما أخبرته من قبل مهما كان. اتفقوا على أن يقام كتب الكتاب في المنزل بينما العرس سيقام في شقة أهل العريس.
أتى العريس وأهله قبل الموعد المحدد للعقد بيومين، جلسوا جميعا يتناولون الطعام ويتبادلون الحديث معا، بعد الإنتهاء من إرتشاف الشاي والقهوة ترك الجمع أحمد وهند للإنفراد سويا.
جلست هند أمام زوجها خجلى وقد أصرت عيونه على عدم التزحزح من فوق ملامحها الفاتنة لها، ابتسامته التي صارت دائمة لا تفارقه اتسعت: هتفضلي مكسوفة مني كدا ؟ .. دا أنا حتى هأبقى جوزك خلاص
أمالت رأسها بعيدا تخفي اتساع بسمتها، أردف: معلش لو مش بأقدر أزورك وأطول بس عشان مشغول في الشقة وتخليصها
رفعت له رأسها متفهمة: ما تقلقش أنا ماعنديش مشكلة ربنا يعينك
رفع حاجبيه: يعني مش فارق معاكي زيارتي من عدمها ؟
أسرعت تنفي تهمته: لا لا مش قصدي
ضحك على إرتباكها: مالك اتوترتي كدا ليه ؟ أنا بأهزر معاكي
نظرت إليه حانقة وقبل أن تلسعه بسياط لسانها دلف والديهما معلنين إنتهاء جلستهما المنفردة، نهضت هند واتجهت إلى المطبخ طلبا لكأسٍ من الماء يطفئ نار غيظها.
لمحت شقيقتها تعد أطباقا من المسليات فتذكرت أمرا رغبت في محادثتها به: فريدة
رفعت فريدة بصرها باسمة ثم عادت تتابع ما تفعل: أيوه ؟
- أنا حاسه إن علاقة ندى بآدم مش مظبوطة
ارتبكت فريدة واهتزت يدها الحاملة لإبريق الماء فليس من عادتها التحدث عن أسرار غيرها، تفهمت أختها السبب فطمأنتها: ما تقلقيش أنا مش باسأل عشان عايزة أعرف .. ومش مضايقه إن ندى قالتلك وماقالتليش لإن أنا نفسي كنت بأقولك حاجات هي ما تعرفهاش .. أنا باسألك علشان لو تقدري تعمليلها حاجه ياريت تساعديها .. حتى عشان خاطر سيف
ربتت فريدة على خدها مهدئة: ما تقلقيش إن شاء الله هألاقي حل وأساعدها
ضمت هند أختها: أيــــووه .. دي ديده اللي أعرفها
شردت فريدة تفكر في حل لمشكلة ندى ولكن كيف تجد الحل والمشكلة نفسها ليست مفقودة ؟.
***
كانت باريهان تجلس في غرفتها تضع طلاء أظافر بلون حديث حين جاءها اتصال، نظرت إلى
هاتفها متأففة لتجد اسم المتصل
"Akram"
التقطت الهاتف بلهفة لكن بأطراف أصابعها حتى لا يضيع تعبها في الطلاء: هالو مونامور
تنهد مجيباً: وعليكم السلام .. إنتي فين يا باريهان ؟
وضعت الهاتف فوق كتفها وعادت تتابع ما كانت تقوم به مجيبة بتأفف: ف الهوم
- طب انا جايلك
اغلق الخط دون أن ينتظر جوابها بينما القت الهاتف وزجاجة الطلاء جانبا ونهضت مسرعة تفتح باب غرفة ملابسها تبحث عن شئ مناسب ترتديه كي تستعد للخروج برفقته، ظنت أنه سيأتي ليصطحبها للسهر معا كالسابق.
صف سيارته أمام باب منزلها يحاول ترتيب الكلام الذي يريد أن يطلعها عليه قبل أن يترجل من السيارة، أخذ نفسا عميقا استعدادا لعصبيتها المعتادة كلما أخبرها أنه يريد التخلي عنها .. وصلت بها الأمور أن قامت في إحدى المرات بالإنتحار أو هكذا أفهمته هي و أمها التي ساعدتها في تلك التمثيلية الرخيصة، لم يستطع أن يتحمل وزر موتها فأكمل معها.
هبطت باريهان الدرج بدلال مرقعقة بكعبي حذاءها درجاته الرخامية، رحبت به: عاش مين شافك يا كركر
بجديه: لازم نتكلم سوا
- طيب هتاخدني فين ؟
نظر حوله ورد بنفس نبرته السابقة: هنا مناسب
انتابها القلق: مالك يا أكرم ؟ واتس رونج ؟
أخذ نفسا عميقاً: اسمعيني للأخر .. باريهان أنا مش هأقدر أكمل معاكي، لفترة فضلت فاكر إن إنتي البنت اللي هتنفعني واللي أتمنتها بس لما قربت منك وعرفتك أكتر عرفت إن إنتي كنتي مجرد غلطة ف حياتي ومش إنتي الشخصية اللي أتمناها تكون مراتي .. وبصراحة أكتر أنا مش بأحبك وبأحب واحدة تانية
سألته بهدوء غير متوقع: مرام مش كدا؟
دُهش: عرفتي منين؟
لوت شفتيها ساخرة: من لهفتك وغيرتك عليها م الولد اللي قبلته ف الغردقة .. ولما سبتني وروحتلها عشان تقعد معاها .. ومن نظراتك ليها
كأن عبأ كبيرا سقط عن كاهله: طب كويس إنك عارفه .. أتمنالك حياة سعيدة مع إنسان تاني أحسن مني ويستاهلك
رسمت ابتسامة زائفة على شفتيها المصبوغتين: وأنا كمان بأتمنالك السعادة .. مع مرام
انصرف أكرم سعيدا أن الموضوع أنتهى بطريقة سلسلة، تنهد فقد كانت مهمته أسهل مما توقع، لكن لو أنتظر بضع لحظات أخرى لعلم ما تدبره له، خرجت والدتها من الغرفة المجاورة وقد استمعت لكل حرف: بقى هتسيبيه يروح من إيدك يا مجنونة ؟
سألتها باريهان شاردة: مين دا؟
صاحت بها والدتها غاضبة: أكرم .. هو في غيره؟
التفتت إليها: بقى كنتي بتتصنتي عليا يا مامي
زفرت والدتها بحدة: عشان خايفة عليكي
لوت شفتها متخابثة: ما تقلقيش على بنتك .. مش باري اللي واحد زي أكرم دا هو اللي يسيبها كدا
انتبهت إلى لهجتها التي يشوبها الإنتقام: وهتعملي إيه؟
باريهان: دونت وري مام ! .. أنا هأعرف اتصرف معاه كويس .. أنا اللي كل الولاد نفسهم بس ف إشاره مني .. أكرم يسبني وعشان مين ؟؛ عشان حتت بت مفعوصة أدوس عليها بصباع رجلي الصغير ؟ .. والله ما أنا رحماكي يا مرام وهأجيبك تترجاني عشان السنيورة بتاعتك يا أكرم باشا .. يا أنا يا أنتوا.

أنا وأنتِ يساويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن