"لم تكوني امرأة. كنتِ مدينة، مدينة بنساء متناقضات، مختلفات في أعمارهن، وفي ملامحهن، في ثيابهن وفي عطرهن، في خجلهن وفي جرأتهن، نساء من قبل جيل أمي إلى أيامك أنتِ، نساء كلهن أنتِ" أحلام مستغانمي.
قلت لها بكل ثقة رجل خمسينيّ مُحنك : أراكِ في الخامسة عند المقهى القابع في زاوية خافتة مزينة بأهازيج خيوط شمس الغروب، كي تعرفيه، عليكِ أن تبحثي عن نوافذه المعرشة بظلال الأماكن، قالت بحياء طبيعي اشتممت فيه ثقة مخبأة في أدراج الأنوثة : إذاً.. عند الخامسة.
كنت بانتظارها، سيدة في بداية الثلاثينيات، جميلة العينين، ممشوقة القوام، رشيقة التعابير، تحرك يديها مع كل كلمة كرقصة فالس ناعمة.
ما جذبني نحوها، قد يكون أي صفة من الذي ذكرته في السطر السابق وقد يكون الكل، لكن حجابها الخليجي الأسود كان كقطعة قماش لمصارع الثيران، تحداني وقبلت التحدي.
لم أكن على عجلة من أمري، أعجبتني حين رأيتها أول مرة، كان لقاء عابرا، مثيرا، قصيرا، بالنسبة لي كانت كفرصة جديدة لقصة غواية مستحيلة، أحب تعذيبي، أدرك مدى صعوبة أن أطالها، وكلما زادت الصعوبة ازداد شبقي، وغروري، فلا مستحيل في دنيا الغواية.
تأخرتُ بلا مبالاة على الموعد، دخلت المقهى الذي اعتاد مشاهد غرامياتي وخيالاتي، جلت بنظري بحثا عن حجابها الأسود المثير بغموضه، كثيرا ما حيرني اللون الأسود، هل أمقته، أم أرفعه ليعتلي عرش الألوان؟
اعتقدت أنها تأخرت أيضا، قلت بنفسي: حتى وإن لم تأتِ، لا يهم، فهناك الكثيرات. لا أدري هل شدني شذى عطرها الأخاذ، أم أنني سمعت صوتها الأنثوي يهدل اسمي؟ ذلك الصوت الدافئ، التقت نظراتنا، شككت لوهلة، هي أم ليست هي؟ تمالكت نفسي، اتجهت نحوها أحاول تجاهل ما رأيت، مددت ذراعي لأصافحها، احتضنت كفها، بكل لهفة ماجنة فرّت من كفي، قاومت شبقي المجنون في أن أحتضنها كلها.
سيدة، وأي سيدة.! جمعت كل ما يشتهيه الرجل، نظرة خجلى في طرفها دمعت الخطيئة، نعومة يدها التي أوحت بنعومة أطرافها، مسني دفء صوتها فكأنني ارتشفت من فنجان قهوة في ليلة شديدة البرودة، كان حديثنا متقطعا.
لم أستطع أن أمارس لعبة الحوار التي هي مصدر لرزقي المادي والعاطفي، تقطعت حبال أفكاري، غدوت كشبكة اتصالات ضخمة استقبلت تيار كهرباء عالي التردد على حين غرة فقررت التوقف حتى إشعار آخر.
اتفقت عليّ كل حواسي، ثارت جميعها، اندفعت تريد الحصول على تلك الأُنثى الباذخة، لممتها جميعا وزججت بها في معتقل احترامي المتبقي لقدراتي بضبط نفسي، في النهاية، أنا لست إلا إنسانا.
لم أكن مستعدا لحرب أنوثة تشنها عليّ بضراوة، رأيت في عينيها الكثير، لم أستطع فهمه. ولأول مرة أقف في حيرة من أمري، هل أقاتل بالمقابل؟ كم من الجبهات علي التصدي لها، وإن غفرت لها هجومها فكيف سأغفر لحلفائي الخونة ؟ حواسي. مشاعري. غرائزي.
يا حلوة كيف جمعت كل التناقضات؟ جعلتِ منها حبات لؤلؤ، زينت به جيدكِ، أين حجابك الأسود؟ لماذا استبدلته بشعر من ليل طويل؟ حياؤك، فطري، طبيعي، بديهي، ما بال الجرأة والإقدام تنبعث من شفتيك، وعينيك؟ صوتك خافت، ناعم، كلماتك، واضحة، واثقة، جملك، قصيرة عميقة. هل ستخبرينني عنكِ يوما؟ هل ستحكين لي سركِ؟ أم سيكون الغموض وشاحك؟
كم أحب هذا الغموض، يأسرني، يحيرني، يربكني، يجعلني متعلقا بتلابيب تعابيرك وحروفك منتظرا بشوق ولهفة كل ما ستقولينه أو تفعلينه.
كنت مخطئا عندما اعتقدت أنكِ فرصة جديدة لقصة غواية، اعتبرتك مغامرة جديدة، لذيذة، سامحيني، فقد أبخستكِ حقكِ، أنتِ أعمق وأغلى وأروع من كل ذلك.
انتهى اللقاء..
خرجت من المقهى بكل ثقة مبطنة بخجل عفوي لذيذ المذاق، مخلفة بقايا عطر، وجنديا مصابا يحاول لملمة بقايا أطرافه المبعثرة.
لم أطلب موعدا آخر، من الخطر أن أبقيها في أجندة مواعيدي، فما أنا إلا خمسيني مغرور على أهبة الإصابة بصدمة قلبية قد تكون سببا في نهاية حياتي المجونية العشوائية. سأبقيها ذكرى دافئة في بركان أحاسيسي الكامن الثائر.
أنت تقرأ
سبعة أيام
Romanceسيدة الحمرا.. أريدكِ وأشتهيكِ ليس كما يشتهي الرجل المرأة، بل كما تشتهي التربة الماء، وكما تشتهي العين النور، وكما يشتهي القلب الحياة، لي رجاء واحد.. حين ترحلين أعيدي لي كياني وذكرياتي وغروري...