بالأمس مس الكوب شفتيها
وقال: إنه يعطي الحياة
فقلت: لا، بل هي التي أعارته حياة
"حافظ الشيرازي"
تأبطت جريدة الصباح، وكتابها، أقصد كتابي الذي به الكثير منها، أفكارها وملاحظاتها، واتشحت بها كي أتفادى برودة شهر ديسمبر، وانطلقت في شوارع الحمرا متجها إلى شاطئنا، لا أثر للشمس، فقد توارت خلف الكثير من الغيوم الحبلى بالخير، وصلت واتجهت إلى طاولتي، بحثت عنها، لم تكن قد وصلت بعد، وبدأت السماء تعزف لحنها الخالد، ترعد وتبرق وتسكب الأمطار دون رحمة، كم أحب
المطر، ولكن إن كان سيحول بيني وبينها اليوم، فسأجعل منه عدوي الأكبر، وسأحقد على الغيوم.
ترى هل ستقبع في حجرتها في ذلك الفندق؟ أم أنها ستأتي للقائي؟ خلعت معطفي الجلدي، وجلست أقرأ ملاحظاتها، كنت قد توقفت عند الصفحة الخمسين، فكرت.. ما
سر الخمسين؟ فأنا في الخمسين، وها قد توقفت عند الصفحة خمسين، يصبح الرجل شيخا في المذهب الدرزي في الخمسين، لابد أن يكون هناك ما يربط كل هذه الأحداث بالرقم خمسين، وأنا في خضم أفكاري الدائخة، وصلت، مبللة بالكامل، من رأسها حتى قدميها، ترى هل قبلت أيضا حبات المطر؟ نهضت مسرعا واتجهت نحوها، كانت تنتفض، وكان المقهى فارغا إلا منا، ساعدتها على خلع معطفها المخملي المبلل، طلبت من النادلة كوبين من الشاي، وأخذتها من يدها المنتفضة نحو المدفئة، وجلسنا متلاصقين على الأريكة أمام النار المتوهجة، هي تنتفض بردا ومطرا.. وأنا أتأجج شوقا وعشقا.
خرجت الحروف من شفتيها مرتعشة: فاجأني المطر ولم أحمل مظلتي.
ابتسمت وقلت: لا عليك ستدفئين الآن.
أحبك أيها المطر فقد تآمرت لصالحي، وبت أحد أعواني، جعلتني أجلس ملتصقا بها أحيطها بذراعي لعلي أعطيها بعضا من لهيبي.
لم تستطع حمل فنجان الشاي الساخن، وببساطة حملته عنها، قربته من فمها، وسقيتها، سحبت بعضا من المناديل الورقية وبدأت أمسح الماء عن شعرها، ومررت بوجهها وشفتيها، ولم تبعد يدي، استسلمت للبرد وللمساتي، وسمعت أنفاسها المرتجفة وارتعشت يدي، وثقلت أنفاسي أنا الآخر، لا أريد أن أتوقف، اقتربت منها أكثر ولم تبتعد بل شعرت بأنها التصقت بي كقطة تبحث عن الكثير من الحب والدفء، ضممتها لي، وضعت رأسها بكل نعومة على صدري، ضمت يديها إلى صدرها وتقوقعت في حضني غير عابئة بأحد، حاولت أن أسمع ما تقول إلا أنني لم أستطع، أحنيت رأسي لعلني أسمع، فاجأني عطر شعرها وعبيرها، يا فتاة الدهر! ألا تملكين شيئا غير الأنوثة الكاملة؟ أيها المطر إياك والتوقف! حتى نهاية الكون، وأي نهاية ستكون كهذه النهاية، وازدادت السماء ابتهاجا، رقص البرق وزغرد الرعد، وتحولت شوارع الحمرا إلى ظلام في منتصف النهار، إن لم أكن شاعرا لأصبحت في تلك اللحظة، سرت في جسدها رعشة، قلت هامسا: أما زلت تشعرين بالبرد؟
حركت رأسها حركة خفيفة، تنهدت، فتحت عينيها ثم أغلقتهما، زمت شفتيها ثم أرختهما، أهكذا تستيقظين كل يوم يا بنت؟ أبعدت جسدها عني، انفصلنا وشعرت ببرودة قاسية تسري في بدني.
قالت بخجل: هل غفوت؟
أومأت برأسي مبتسما.
قالت: أعتذر.
قلت بتأنيب: ولماذا الاعتذار؟
قالت مخفضة عينيها: لا أتخيل ما سيقوله الناس، لقد أحرجتك، لم أشعر بنفسي.
قلت: أي ناس؟ أنا وأنت فقط اللذان في المقهى، لا أحد سوانا.
قالت: عليّ أن أذهب.
قلت: لكن المطر ..
قالت بإصرار: عليّ أن أذهب، تأخرت.
قلت أستجديها: تأخرت على ماذا؟ انتظري بضع دقائق أخرى لعل المطر يتوقف أو حتى يخف.
بعناد أحببته فيها قالت: سأذهب. فندقي يبعد بضعة أمتار وإن بللني المطر فسألجأ لغرفتي.
قلت مستسلما: كما تريدين.
لبست معطفها، وحملت معطفي، وخرجنا معا، قالت: هل ستذهب أنت أيضا؟
قلت ببساطة: سأوصلك إلى الفندق، معطفي من الجلد وسيحميك من المطر.
قالت: وماذا عنك؟
قلت: لا عليك، أنا لا يهمني المطر، وإلا لكنت وجدت معي مظلة.
جعلت من معطفي خيمة تظللها، وانطلقنا معا نحو الفندق.
كانت من أمتع الرحلات التي انطلقت بها، لم يرحمنا المطر وانقض علينا كشلالات لعوب، ضحكنا كثيرا، فتارة تغطس قدمها بحفرة مليئة بالماء، وتارة أسحبها قبل أن تجتاز الطريق وتدهسها سيارة مسرعة، كانت مندفعة، تمشي بخفة وسعادة، بل كانت تقفز فرحا بالمطر، رفعت المعطف عاليا وقالت: احتمِ معي تحته، ستمرض.
والتصقنا تحت المعطف، رأيتها يومها كما لم أراها من قبل، رأيت تلك السيدة طفلة، وما أعذبها من طفلة.
وكما أن لكل شي بداية، فلكل شيء نهاية، وصلنا، ودعتها.
قلت: غدا.
قالت بابتسامتها العذبة: غدا.
أنت تقرأ
سبعة أيام
Romanceسيدة الحمرا.. أريدكِ وأشتهيكِ ليس كما يشتهي الرجل المرأة، بل كما تشتهي التربة الماء، وكما تشتهي العين النور، وكما يشتهي القلب الحياة، لي رجاء واحد.. حين ترحلين أعيدي لي كياني وذكرياتي وغروري...