الفصل -1-

118 30 63
                                    

شارع واسع وطويل على مد البصر، نظيف جدا وخالٍ تماما من أي وجود بشري، لا سيارات ولا صناديق قمامة ولا لافتات، الجو صحو والسماء زرقاء صافية والألوان فاقعة، اليومُ مشمس والظلال قصيرة، لكن لا وجود للشمس أو أي مصدر آخر للضوء!! هدوء مرعب كسره وقع أقدام الدكتور توماس غروسمان ببدلته السوداء الأنيقة وحذائه الجلدي الفاخر.
يقف توماس في هيبة ووقار ملتفتا خلفه..

- يا للخسارة! عالم جميل مثل هذا بلا شمس، لا بد أن هذا هو السبب..

المشهد خلف توماس كان في غاية التشوُّه والغرابة، ينحدر الشارع والمدينة والعالم بأكمله إلى الأعلى شيئا فشيئا حتى يصبح كل شيء مقلوبا رأسا على عقب.

يلمَح توماس بطرف عينه حركة خفيفة في أحد نوافذ المباني، فيضع يده اليمنى مباشرة على الأرض فتنطلق شبكة خطوط سوداء تشبه الأوعية الدموية أو جذور النباتات وتتجه في لمح البصر نحو النافذة..

- أمسكتُ بكِ! يالك من خجولة، أخذتي مني خمس ساعات كاملة حتى أظهرتي نفسك..

أحكَمَ توماس قبضتَه اليمنى فبدأت الخيوط تنكمش وتعود نحوه بينما تجر معها ذلك الكائن القبيح..
كان شيئا أشبه بعجينة ضخمة من معدن مصهور صار لونه أصفرًا مشعًّا من شدة الحرارة، تسبح فيه مجموعة من العيون والأطراف الصغيرة وفم كبير مقرف متباعد الأسنان ينطلق منه خوار عظيم.
فجأة برز منها شيئا أشبه بنخاع شوكي في حركة سريعة ومضطربة اضطراب الأفعى الغاضبة، فانغرس سريعا في الأرض، وإذ بصدوع وتشققات تنزف حمما صفراء تنتشر بسرعة البرق وتملأ ذلك العالم بأكمله، فيبدأ كل شيء في التشوه والانكماش أكثر مما هو عليه، في نفس الوقت بدأت شبكة الخيوط السوداء التي تقيدها وتسحبها نحو توماس في الذوبان..

- يا للسخافة! حتى شبكة سيباستيان لم تصمد أمام هذه الهلوسة العنيدة، حسنا حسنا فلنرى ماذا ستفعل حيال شبكة إيفا..

يضرب توماس يده اليسرى على الأرض فتمتد منها شبكة خطوط بيضاء سريعة الانتشار تشبه توصيلات دارة إلكترونية، وما إن لمست الهلوسة الهائجة حتى حدثت صاعقة مدمرة تطاير على إثرها شرر ساطع ملأ المكان، لتُطلق الهلوسة صرخة مدوية، وقبل أن تكمل صرختَها كانت مختومة داخل محفظة الدكتور توماس العجيبة التي أغلقها في رمشة عين.
بدأت التصدعات تختفي من العالم وتبخرت الحمم سريعا، بعد لحظات بدأ العالم يتفتح مثل الوردة، والتشوهات تختفي ببطء، صاحَبَ ذلك صوتٌ هائل يشبه صوت انضغاط جسم الغواصة تحت وطأة المحيط هز أرجاء الدنيا، وظهرت أخيرا شمس صغيرة جدا في كبد السماء..
وجّه توماس ساعة يده نحو الشمس فغمره ضوء قوي ليختفي وكأن الضوء قد سحبه نحو الشمس..

متاهة المونومانياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن