تثاءبتُ في إعياء، فتركتُ قلم الرصاص الذي كنت أكتب به ينفلت من يدي، أزلتُ نظاراتي الطبية التي اعتدتُ أن أرتديها أثناء الدراسة و وضعتها بجانب كومة الأوراق التي تعتلي مكتبي، ثم نظرتُ من خلال نافذة غرفتي إلى العالم الصامت الذي يحيط بي؛ سماء منتصف الليل المرصعة بالنجوم هذا اليوم تبدو كقلب شخص واقع في الحب، و أنوار الشارع الجانبي الصفراء الخافتة تتسلل بسرية من بين ثنايا الستائر الشفافة، لينعكس بريقها على غلاف المؤلَّف الفرنسي الذي وضعْتُه بحرص فوق الكتب الأخرى. استندتُ بوجنتي إلى كف يدي التي يحيط بها الضماد الطبي، فيما شقت أناملُ يدي الأخرى طريقها لتلامس الكتاب.
لقد وقعتُ في الحب!
و شعور الحب هذا اخترقَ قلبي بغتة كما تعبُر الشهب و النيازك صفحة سماء ليالي الربيع...
ارتسمتْ ابتسامة حالمة على ثغري و أنا أتذكرُ القصة التي نُقشت حروفها حول هذا المؤلف، لقد بدأ السحر فجأة في مكتبة جامعتنا قبل عدة أيام:
الغضب يتفاقم في أعماقي و أنا أسير عبر أروقة المكتبة في إنهاك ضامة بعض الكتب إلى صدري، كنت أبحثُ عن بعض مؤلفات الأدب الفرنسي التي أحتاج إليها في مشروعي الجامعي منذ أيام دون أن أجد لها أثرًا.
فقدتُ السيطرة على أعصابي حين وجدت الجزء الخاص بمؤلفات "بالزاك" فارغا لليوم الثالث على التوالي، فضربت الخزانة بيدي بقوة دون أن أنتبه لذلك المسمار الحديدي الذي لا يكاد يرى في الجانب، و الذي أحدثَ جرحا عميقا في كفي، و ما لبثت الدماء الحمراء القانية أن تدفقت بغزارة من خلاله، و سرَى ألم قاتل في جسدي. تنفستُ بعمق و شعرتُ بالوخز في عيناي، رميتُ الكتب التي كنتُ أحملها بعيدا في حنق، و حدقتُ في قطرات الدماء التي تلون أرضية المكتبة.
تبا، كيف يمكن لحياتي أن تصبح أسوء؟ استندتُ بجبهتي إلى الخزانة في صمت. تساءلتُ في هذه اللحظة، ممن ورثتُ طباعي الحادة و قلة صبري هذه؟ أمي امرأة تمتلك من الصبر و الحكمة ما يشعرني بالخجل، و أبي الذي تلاشت ملامحه من ذاكرتي منذ أن غادرنا حين كنت في الخامسة من العمر، كيف كانت طباعه يا ترى؟ إن أمي دوما ما تصفه بالشخص الهادئ الحليم...
إذن ممن ورثتُ غضبي السريع و أعصابي الثائرة على كل شيء و لا شيء؟
-"هل أنتِ بخير؟" شعرتُ بيد تلامسُ يدي المصابة، التفتتُ إلى من كان يخاطبني، و قد كان طالبا جامعيا ربما يكبرني ببضع سنوات، يحمل في يده دفتر ملاحظات صغير، و يرتدي نظارات مستديرة ذات إطار نحاسي لامع، و قميصا باللونين الأبيض و الأزرق...
تلعثمتُ و فرتِ الكلمات من لساني فجأة ما أن رفع أنظاره إلي بعد أن كان يتفحصُ الجرح باهتمام، سألني مجددا:"كيف حدث ذلك؟"
استجمعتُ شتات نفسي أخيرا و أخبرته:"بسبب ذلك المسمار"
جمع الكتب التي رميتها سابقا على الأرضية ثم أمسك بمعصم يدي المصابة، و أخبرني بنبرته الهادئة:"دعينا نعالج جرحك أولا، حسنا؟"
YOU ARE READING
قبل أن ينتهي الربيع
Truyện Ngắnرجوتُ من أعماقي مجددًا: "أرجوك دعني أختفي، دعني أتوارى بهدوء، دعني أغادر بلا ألم"