فتحت عيناي بتثاقل، أغلقتهما مجددا في إنهاك، كنت أشعر بالتعب الشديد، و كأني كنت أجري لأيام في صحراء لا بداية لها و لا نهاية، قاومت لأفتح عيناي ثانية، نظرت إلى النافذة الموجودة على يميني، و قد كان الظلام يغمر العالم، كان ظلاما شديدا، دامسًا، فأدركت أنه الفجر.
أي يوم يكون هذا؟ يوم ميلاد جايك؟ نظرت حولي بوهن، و سقطت عيناي الذابلتان على التقويم الملتصق بالحائط، إنه الخامس من حزيران، لقد مرت الكثير من الأيام على عيد ميلاده.
نظرت إلى يساري، لمحت بعض الظلال، كانت أمي تنام بشكل غير مريح، استطعت رؤية الهالات التي تحيط بعينيها، هل بكت علي لوقت طويل؟ هل تشعر بالغضب نحوي لكوني لم أخبرها أبدًا عن مرضي؟ لابد أنها تفهم الآن لما، لما سألتها ذلك السؤال ذاك اليوم، لما سمحت لها بالتبرع بملابسي، لما أعطيت كتبي لذلك الرجل المسن، و لما شعرت بالحزن في ذكرى ميلادي العشرين، أجل، لابد أنها تفهم الآن...أنا أشعر بالارهاق، لكني أشعر بالرغبة في الكتابة، كتابة شيء ما، كتابة أي شيء، لكن هل سيكفيني الوقت لكتابة كل شيء؟ همست للموت قائلة:"مهلا أيها الموت، أمهلني بضع لحظات، تمهل قليلا، دعني أكتب شيئا، دعني أكتب كلماتي الأخيرة، امنحني هذا المعروف فقط، ثم حينها، يمكنك أن تأخذني معك"
نظرت إلى جانبي، غرفة المشفى هذه لا تشعرني بالراحة، لمحت كتابا ما و قلما، لمحت كل ما أحتاجه الآن، كل شيء أحتاجه الآن، مددت يدي الشاحبة بوهن نحوهما، و قد كان الكتاب هو مؤلف "زئبقة الوادي" الذي أهداه لي جايك، شعرت و كأن جايك يقف إلى جانبي في هذه اللحظة.
الصفحات الأخيرة من الكتاب كانت فارغة، لقد تركها الناشر فارغة من أجلي، لأكتب فيها كلماتي الأخيرة، لأكتب أي شيء...
يدي كانت ترتجف بضعف، لم تكن كتابتي واضحة، لكني بذلت جهدًا أكبر لأكتب، لأقول كلماتي الخرساء...
سقط ذلك الكتاب من يدي في لحظة ما، شعرت بأمي تنتفض بجانبي على وقع سقوط الكتاب و القلم، شعرت بأنفاسي تنقطع، شعرت أنها النهاية، عيناي لازالتا مفتوحتان، أمكنني رؤية أمي تبكي من فوقي، أمكنني الشعور بدموعها الدافئة و هي تسقط على وجنتي الشاحبة و الباردة، شعرت بيدها الجليدية تشد على يدي الباهتة كأوراق البردي الصفراء، و كانت يدي لاتزال دافئة بغرابة...
عيناي تنغلقان، تنغلقان ببطء، يختفي النور الخافت الذي يتسلل من أسفل الباب ببطء، يسود الظلام شيئا فشيئا، ببطء...
~~
فتحت يد ما رواية "زئبقة الوادي" ل"بالزاك"، مرت عبر صفحاته بشكل سريع فسقطت ورقة صغيرة من بين ثناياه، لامست الأنامل الكلمات التي تضمها "أردت أن ألتقي بك قبل أن ينتهي الربيع".
وضعت تلك اليد الورقة على الجانب، و استمرت بتقليب الأوراق و تتوالى الصفحات، إلى أن ظهرت الصفحة الأخيرة، حيث كتب شيء ما، بخط غير واضح، كتبته يد ضعيفة، في آخر لحظاتها:
"إني أكتب إليك، و أنت لا تتواجد بجانبي في هذا الفجر المظلم. إن الموت يمهلني لحظات لا غير، لأكتب لك شيئا، أردت أن أخبرك أنه يمكنك البكاء بحرية الآن، و أتمنى أن تتعافى قريبا من رحيلي. أردت أن أخبرك أن أيامي الأخيرة كانت جميلة بوجودك، يجب أن تكون سعيدًا من أجلي، قريبا سيحتضنني الفجر، قريبا سأغادر إلى الربيع الأبدي أيها الصديق.
سأطلب معروفا منك، معروفًا أخيرًا، اعتني بأمي، و بشجرة اللوز الصغيرة بجانب منزلي، اعتني بهما من أجلي.
وداعا، وداعا جايك.
من شخص كان يحبك - نيلوزي"النهاية.
~~23.2.2022
الفصل الأخير هنا...ها أنا أودع أول رواية لي، و التي سكبت فيها من رحيق مشاعري...
أنا ممتنة لكل من قرأها ♡~~
ماذا تعتقدون حيال نهاية القصة؟
بعيدًا عن النهاية -و التي تبدو واقعية- أتمنى أن تترك هذه القصة أثرًا على قلوبكم، و أتمنى من كل الرسائل الرقيقة التي تضمها بين طياتها أن تصلكم...
تذكروا دوما يا رفاق، أنه لا يفوت أوان المرء للعيش أبدًا، ما دمنا على قيد الحياة يمكننا دوما أن نعيش، يمكننا أن نحب، أن نركض تحت قطرات المطر، أن نترك أثرًا رقيقا على صفحة الكون، و نخلق السعادة...
لذا عيشوا حياتكم لحظة بلحظة، و نفسا بآخر، و خطوة تلوها أخرى، بقلب طفل صغير لا يفكر فيما مضى و لا يحمل هم الآتي، حسنا؟
أتمنى أن تجدوا السعادة جميعًا 🌸
كاف🌿
YOU ARE READING
قبل أن ينتهي الربيع
Short Storyرجوتُ من أعماقي مجددًا: "أرجوك دعني أختفي، دعني أتوارى بهدوء، دعني أغادر بلا ألم"