جُرف النسيان
بَدتْ قلقة يرتعش جسدها النحيل خوفاً، تلتفت تارةً يميناً و تارةً اخرى يساراً ، لا أثر للبشر هنا, لا يوجد سوى أشجار كثيفة متشابكة وعالية، حجبت أوراقها ضوء القمر. تتمايل الأغصان لترقص مع الرياح فتهمس الأوراق حفيفاً مرعباً. يخترق مسمعها صوت صرصار الليل ليضج الخوف في داخلها فتتبعثر احاسيسها الداخلية و يتصبب العرق من جبينها انهاراً. رغم أنها كانت ليلة باردة جداً إلا أن غابة الموت كانت تثور بركاناً تحت قدميها.
استجمعت بعض قواها, أو لعل غريزه البقاء حركتها فبدأت تخطو خطوات ثقيلة وجلة. تدوس بأطراف اصابعها على الأوراق اليابسة المتناثرة على الأرض. اسرعت الخطى أكثر على الرغم من أن الوجهة كانت غير معلومة. لكن شعوراً ما كان يقودها له!. كرُبانِ ماهِر ابحرت نحو المجهول. شيئا فشيئا اختفت الأشجار وظهر القمر، اصبح ملمس الأرض قاسياً على قدميها كقطعِ بلورٍ مكسور نُثر على الأرض، لكن تلك البوصلة العجيبة ترغمها على المسير علها لم تصل الى المكان المقصود بعد.
اشتدت الرياح و عبثت بشعرها فتطاير معها، رفعت وشاحها المصنوع من الصوف من اكتافها وغطت راسها آملة في القليل من الدفء. لكن نسيمات البحر القادمة من الشرق تصب عليها البرد صباً. لم يفارقها ذاك الشعور الذي يجبرها على المسير كان اقوى من خوفها بكثير فجأة سمعت صوت طفل يبكي، اخذت تجري بلهفة وتصرخ أين أنت؟! لا تخف انا آتية إليك. لم يهيبها الظلام ولا البرد القارس اوقفها، لم تكترث لقدميها اللتين تشققتا و خرج منهما الدم، كان بكاء الطفل يؤلمها اكثر. تهرول في قلق، تصرخ، تنادي، تلتفت هنا وهناك لكن لا جدوى. لم تجده، أصابها الجنون، اخذت تجري بسرعة إلى أن وصلت الى نهاية الطريق. كان جرفاً عالياً، تتلاطم أمواج البحر من تحته. لاشيء سوى صخور حادة تحت قدميها، هواء بارد يدفعها إلى الخلف. ومياه على مد البصر.
مازالت لا تعرف لمَ قادها الطريق إلى هنا لكن ذلك الشعور الغريب لا زال يراودها. أخذت تتأمل مياه البحر السوداء التي نَثر القمر عليها من نوره، فأصبحت تنساب أمامها كقماش حريرٍ مرصع بالألماس.
خرج صوت من البحر يناديها. زال الخوف ياصغيرتي أنت حرة الآن، يمكنك المجيء نحن بإنتظارك، تعالي وارتمي في احضاني. صوتاً دافئاً عذباً اراح صدرها المتعب. ارادت أن تذهب ليغمرها بين ذراعيه فتزيح اطنان الألم عن قلبها. ولتكسر القيود التي طالما حبستها بين جدران الحزن. خطت خطوة نحو الأمام ارتفع صوت الترانيم و دُقت الأجراس ،تراشق رذاذ الماء حباً أمام عينيها، رفعت قدميها لتخطو خطوة ثانية نحو الخلاص، جاءها صوت غليظ من الخلف توقفي!! ما أنتِ فاعلة؟ إلتفتت في خوف و سألته من أنت؟! كان يجلس على صخرة مجاوره، ملامحه غير واضحه يرتدي معطفًا بالياً ويمسك بسيجارة، قال لها وهو ينظر إلى البحر لا يغرنك هذا المنظر الرائع فخلف الاضواء المتلئلئة يكمن وحش قاتل. اعادت عليه السؤال من انت؟ ضحك بسخريه وقال لها اعتقد أنك لا تعرفين قواعد اللعبة!!.
_عن اي لعبه تتحدث؟!
- ألم تأتي للجرف كي تنسي؟
_انسى!!! لا اعلم كيف أتيت ولمَ قادتني قدماي إلى هذا المكان؟ أجزم بأنه كان يناديني.
_هي أوهام النسيان تراودكم، كل من وطأت قدماه جرف النسيان ردد نفس الكلام.
. _لم لا؟! سُمي الإنسان إنسان كي ينسى
_نحتاج لأن نكون بشراً كي ننسي!!!
دارت وجهها وبنبرة غضب حادة قالت له ما عِلتك؟!.
ضحك بصوت عالٍ وقال لها ألم انقذك من الإنتحار للتو؟! ما بك؟ من هذا الذي استحق النسيان وأتيتِ للجرف طالبة يد العون.
لم يستحق الوجود من الأساس، احببته لم احب غيره، اعطيته كل شيء ومنعني من كل شيء، لم اعرف طعم الحياة معه لا بل لم أعيش الحياة معه. كان لي بيت كبير لكنه خالي. اطبقت جدرانه على أنفاسي. لم يكن موجوداً أبداً، احتفلت بعيد مولده وحيدةً لم يحتفل معي، ذاب قلبي قبل أن تذوب الشموع!.
كنت سجينه لا يحق لي الخروج ولا استحق ان أملك هاتفاً. لكن ذاك السجن لم يكن مؤلماً لطالما كانت الوحدة رفيقتي! بالنسبة لفتاة تعرفت على اليُتم منذ نعومة اظافرها، نبذتني خالتي وتركني عمي, تعودت على أن أكون في دائماً آخر الصف . لم يكن اهماله موجعا في بادئ الأمر. فقد كنت أرى فيه طوق النجاة، لكنه اخذ يضيق عليَّ يوماً بعد يوم ويخنقني. خارت قوايَّ فلم أحتمل. فرحت بحَملي وحيدة كالعادة، اخبرته بأنه سيصبح اباً، رد عليَّ ساخراً اُشفق علي طفل تنجبينه أنتِ!.
لم يجد السعادة معي بل بحث عنها عند الآخريات. كان يتباها بعدد عشيقاته أمامي، من أي حجر خلق قلبه لا ادري؟!.
يوبخني فوبخت نفسي، يؤنبني فقتلني ضميري تأنيباً، لا أعلم ما خطئي لكني حتماً مخطئة.
مخطئة في نظر أهلي لأني أتيت للدنيا يتيمة و مخطئة أمام زوجي فقط لأني عشقته!.
وعندما شعرت بالأمل يتخلل حياتي وانجبت طفلاً رائعاً ملائكي الطلة ورأيت شيئاً من الحب النقي يرويني ويكفيني لأعيش بسلام دار الدولاب مجدداً، من أنا كي افرح؟!.
نام الطفل بين ذراعيَّ ولم يستيقظ اخذت اهزه بقوة. لم يفتح عينيه، لم أرى ابتسامته الجميلة. فصرخت فزعاً أصبحت أركض في البيت هنا وهناك لم يسمع صوتي احد، لم يأتي لنجدتي أحد ، كيف يُسمع صوتي وجدران السجن تحبسه وتمنعه من العبور، كيف يأتي من ينجدني والأسوار العالية تحول بيني و بين سكان كوكب الأرض؟!.
مضت ست ساعات و هو في حِجري لم يتحرك، ملاكاً طاهراً رحل عني وذهب للسماء. وبعد ليلة طويلة وباردة كليلتنا هذه جاء والده يغني ويرقص! . وقد أخذ الشراب من عقله ما أخذ. لم أكن غاضبة منه بل عليه!. كم كنت استحق الشفقة!.
كثورٍ هائج انهال عليَّ بالصفعات، قال لي اخبرتك لم و لن تصلحي لتكوني اماً، قتلتي الطفل بغبائك. اخده من بين ذراعي، انتزع روحي معه ورحل.
اغمضتْ عينيها وشدت الوشاح ضمته بيديها على صدرها لتحبس لهيب الألم في داخلها. في محاولة يائسةٍ لإخماد النيران. جففت الدمع قليلاً وسألته ألا تستحق روحي بعض من النسيان؟!
قال لها وهو ينفث الدخان من سيجارته حقاً تستحقين.
ارادت الرحيل استدارت إلى الخلف. وبينما كانت تهم بالذهاب قالت له: ألم تقض حاجتك بعد؟ اعتقد أن وقت العودة قد حان فالبرد قارص هنا. هز رأسه وهو ينظر للبحر ثم قال حاجتي لن تنقضي أبدا.ً
_افرغ ما عندك للجرف وارحل.
اطبق على سيجارته بقبضة يده بقوة وغضب حتى احرقت باطن كفه و لم يحركه الألم قال لها :انا لم أتي لأنسى أتيتُ لأُنْسى!!!. أنا استحق أن أُمحى من ذاكرة التاريخ وتُقطع شهادة ميلادي, ولا تُوثق لي شهادة وفاة! انا الذي نال كل شيء في الحياة واضاع جميع الأشياء.
كانت أجمل فتاه رأتها عيناي، كنتُ اعترض طريق عودتها من المدرسة فتركض وتدخل منزلها في خجل. تزوجتها ولأن ممتلكاتي عزيزة عليَّ احتفظ بها لنفسي فقط، فوجه زوجتي محرم على كل البشر. كانت مطيعه اكثر من اللازم، لم تقل لي لا قط، فأعجبتني اللعبة وتماديت. سرعان ما فقدت الحياة بريقها فعدت لسالف عهدي، غانيةٍ وكأس! . هناك عندما يتوج الرجل ملكاً بين عشيقاته و يولد الشعور الزائف بالعظمة فيرجع بيته ببقايا وحشٍ ساديٍ، يفرغ جُل غضبه على وردته الذابلة، كنت غاضباً بدون سبب، كنت انانياً. لطالما كنت طفلاً مدللاً استمتع بسماع بكاء الأطفال على ألعابي.
لم أُقَدر حبها لي بغبائي ظننته ضعفاً وللضعيف عندي متعة خاصة. شككت فيها قبل أن تقترف ذنب، في نظري كلهن مذنبات. لم أبادلها الحب حتى بعد أن اهدتني طفلاً. كأس خمري كان ألذ من طعم الأبوه.
مات طفلي لم احتضنها لنبكي عليه معاً، بل أوساعتها ضرباً واخذته لأدفنه، نظرت إليه قبل أن أغطي جسده الطاهر بالثرى فشعرت به يأنبني، سمعته يقول لي لمَ تركتني أرحل يا ابي؟.
عدت إلى البيت ظناً مني أن ألقاء اللوم عليها سيجبر قلبي المكسور. لكنها غادرت بكل بساطة و لم تلومني، لم توبخني أو تصفعني. كعادتها تلوم نفسها و تنزوي بعيداً. حَملتْ روحها وغادرت للأبد، لم أجدسوى جثة هامدة.
ماتت! رحلت ولم تترك لي وعاءً كي افرغ فيه اخطائي، لطالما كانت هي الوعاء!.
أنا لا أستحق النسيان و لا أستحق أن أحتفظ بها في ذاكرتي حتى! . انا لا أستحق ان أبقى على هذا الجرف، فهو للبشر ليس مُلك للشياطين.
قالت له بصوت متحشرج يغرغر ألماً تأخرت كثيراً لتعرف أن لا مكان لك بين البشر! . رمقته بعينيها، حركت الرياح وشاحها فسقط على اكتافها وعكس القمر ضوءه على وجهها. نظر إليها بدهشه وتجمد مكانه في فزع، اخذ يتلعثم ل ل ليلى، ليلى، أانتِ هي؟! لم تذهبي حقاً لم تتركيني كنت أعلم أنك سوف تعودين يوماً ما، كنت أعلم أنك تحبيني ولن تتركيني، كنت متأكداً أن قلبك الكبير الذي لطالما صفح عني سيجبرك على المجيء. قالت له أتيتُ لأنساك لا لتنساني! ومشت بخطى بطيئة نحو الغابة. نهض من مكانه في فزع و راح يمشي وراها و يصرخ ليلي انتظري ارجوك لا تذهبي لقد تغيرت! . اخذ يجري آملاً في اللحاق بها تعثر على حجر في طريقه وسقط على الأرض، نهض بسرعة لكي يستطيع اللحاق بها لكنها اختفت. أصبح يصرخ ويجري، يلهث وراءها بلا عقل، لا أثر لها اختفت تماماً من أمام ناظريه. يرى خيالها بين الأشجار، يسمع صوتها مع حفيف الشجر. تائهاً ضائعاً بلا أمل يبحث عنها لكنها اختفت.
شعر بشيء يمسك يده بقوة فنظر إليه؟!
_اتركني يا هذا اريد الحاق بليلى، كانت هنا جاءت من اجلي.
رد عليه الرجل العجوز كفاك عذاباً يابني.
منذ أن عثرت عليك تائهاً في هذه الغابة وقصصتُ وعليك حكاية جُرف النسيان وانت تأتي كل يوم منذ خمس سنوات لتنسي زوجتك المتوفاة. لن يساعدك الجرف و لن تنسى أبداً!.يتبع