جدي ... جدي ... مع من تتحدث؟!
_ذاك الشاب يا ابني ألا تراه؟
_لا أحد هنا سواي، في هذه الغابة الكئيبة،هيا بنا لندخل الكوخ فالجو بارد هذه الليلة. احضرت لك بعض من الحساء، اعدته امي لك خصيصا ؛ فهي تعلم انك بحاجته.
كان الرجل العجوز واقفاً وعلامات الدهشة تعلو وجهه. امسك الحفيد بيد جده المتجمد في مكانه، يريد أن يدخله والكوخ خوفاً عليه من البرد. وعندما بدءا المسير سمعا صوت قادم من ناحية الأشجار. لم يكن صوت ينذر بقدوم شيء نحوهما، ولا صوت بكاء أوصراخ بل كانت معزوفة موسيقية رائعة. نغمات رقيقة تنساب من بين أوتار آلة الكمان تتخلل الأشجار لتصل إليهما.
نظر الفتى إلى جده في دهشة وقال له: موسيقى في هذا المكان؟! و هذا الوقت؟! بدأت أخاف من الجرف أكثر فأكثر. كل مرة أتي للقائك اسمع وأرى أشياء غريبة ومخيفة.
ابتسم الجد ابتسامة هادئة وقال له اتظن أن أعوامك السبعة عشر التي قضيتها على وجه هذه الفانية كافية لتريك غرائب الدنيا!. لو كانت بهذه السهولة لما اضطر أحدهم للمجيء هنا باحثاً عن النسيان. أتظن أن إزالة صورة قابعة في خلايا المخ أمراً محببا.ً
_أمحو صورة تذكرني بالألم واستبدالها بأخرى تجلب لي السعادة. أين المعضلة؟!
_مهلاً أيها الشاب الصغير فاليوم الذي مضى من عمرك لا يُمحى ولا يُستبدل، بل يضل في دفتر حياتك إلى الأبد. وانت من تقرر كيف تبدو هذه الصفحة، بيضاء تتوهج بريقاً مدى العمر أم سوداء تجلب لك العار وتصبح حملاً ثقيلاً على كاهليك، أم ذكرى تعصر القلب ألماً، لاتستطيع محوها لكنك تحاول. وإن مُحيت بالفعل ستفعل المستحيل لتحصل عليها مجدداً تماماً كما يفعل رُواد هذا الجرف.
_لم افهم شيئا ياجدي.
_يا بني اننا جميعاً نحيا بالذكريات، هي غذاء وارواحنا، وحين نفقدها تضل اجسادنا هائمة بلا أرواح. وعلى الرغم من أن هناك بعض الذكريات القاسية إلا انها تظل جزءً مِنَّا لا نريد الإستغناء عنه. فيأتي أحدهم إلى هنا أملاً في النسيان تارة وفي إسترجاع الذكريات تارة أخرى، فما نحن إلا شريط سينمائي من الصور و اللحظات ولا ينتهي الفيلم إلا عندما تنقطع الأنفاس وندخل القبر!.
وقف الفتى حائراً بين كلام جده وبين الموسيقى التي تتخلل مسمعه من حين إلى آخر. أمسك الرجل العجوز يد حفيده وقال له: يقتلك الفضول فلا تجعله يسيطر على تفكيرك أكثر تعال معي لترى مصدر الألحان.
مشيا بإتجاه الغابة المظلمة وأصبحا يبحرا في الظلام أكثر،تطقطق الأوراق الجافة تحت قدميهما, تهب الرياح، تتحرك الأشجار، تهتز الأغصان كأنها ترحب بهما في عالم النسيان!. عَلت أصوات الموسيقى وامتزجت مع حفيف الأشجار لتُكوّن مقطوعة موسيقية تقشعر لها الأبدان.
كانت واقفة على حافة الجرف بثوبها الأبيض المصنوع من الحرير الرقيق، المزين بخيوط بالخيوط الفضية اللامعة. ينسدل شعرها على أكتافها فتعبثُ به الرياح ليداعب خديها الورديان. بدت كعروس في غاية الجمال خرجت من أعماق البحر . تُسند رقبتها على كتفها لتثبت آلة الكمان، تحرك بيديها على الأوتار بكل رقه لتطلق العنان لموسيقاها وتخرجها من سجنها الحزين.
تتراقص الأمواج تحت قدميها و تتلألأ النجوم فرحاً بأنغامها و بقدومها. تصفق الأشجار من خلفها و ينحني الجميع احتراماً لمايسترو العذاب الدائم!.
وعلى الرغم من قوة الرياح والبرد القارص في تلك الليلة إلا انها لم تتوقف وواصلت العزف مغمضة عينيها تحلق في عالم آخر غير العالم الذي ننتمي إليه. نظر الفتى إلى جده قائلاً: من هذه الفتاة؟ ولماذا هي واقفة عند نهاية الجرف هكذا؟ ساكنة بلا حركة تعزف في هدوء غير مبالية للبرد رغما ان ثوبها رقيق جداً، ليست بخائفه رغم أنني اجزم أن الأشباح تحفُ بنا من كل صوب.
رفع الجد رأسه إلى السماء و أطلق تنهيدة طويلة، ثم قال: في مثل هذا الوقت من السنة تأتي مرتدية ثوبها الأبيض، حاملة آله الكمان وحاملة مزيد من الذكريات و الآسى، تطلق الألحان لتأذن لها بالرحيل لكنها تأبى أن تتركها فتأتي كل عام لتجدد العهد الذي قطعته مع الألم!.
كنت انتظر قدومها بلهفة كل عام، كنت اخرج لأُعطر مسمعي بموسيقاها. إلى أن تجرأت يوماً وسألتها ويا ليتني لم افعل!.
في ليلةٍ مماثلة لليلتنا هذه و البحر هائج جداً ,تكاد لا تسمع شيء سوى تلاطم الأمواج على الصخور. اخترقت ألحانها ضجيج الطبيعة وصلت أعماق قلبي وسكنت هناك. تقدمتُ نحوها وقفتُ خلفها سألتها يا ذات الرداء الأبيض لما تقفلين عندك احترسي فإن الجرف غدار. توقفت عن العزف استدارت وقالت لي: لن يكن أكثر غدراً من البشر! ابتسمت ابتسامة لم أفهم معناها حينها رفعت آله الكمان وواصلت العزف. فاقتربتُ منها أكثر وبنبرة صوت عالية خاطبتها، انتِ تقفين على حافة الموت! احترسي ياهذه. ظلت واقفة مكانها لكنها لم تعد تحرك الأوتار. توقفت الموسيقى لتسمح للبحر أن يعزف موسيقاه وحيداً.
اشتدت الرياح وبدأت الأمواج تضرب الجُرف بقوة. أكاد أشعر بهتزاز الأرض من تحت قدميي. وقفت ساكنة في مكانها بلا حراك تهمهم بكلمات لم افهمها. اردت أن اقترب فالفضول يقتلني خطوت خطوة إلى الأمام نحوها ورفعت قدمي لأخطو الخطوة الثانية لكن نبرات صوتها الحادة اوقفتني، قالت لي في غضب لا تقترب، وفي محاولة يائسة مني لفتح بوابة للحوار سألتها ألا تشعرين بالبرد؟!. لا أشعر بالحياة هكذا اجابتني!
_ابتعدي عن الجُرف قليلاً و اقتربي مني حتى أسمع حديثك جيداً. نظرت إليَّ وأخذت تضحك بسخرية. انتظرتها طويلاً لكنها لم تتوقف عن الضحك! صوت قهقهتها أعلى من صرخات الموج!.وفجأة صمتت، رجعت ساكنة بلا حركة وكأنها لم تكن تُسابق الموج في الضجيج للتو. رفعت رأسها إلى السماء لتسرق عينيها بريق النجوم واستدارت قائلة: لم أطلب الكثير، لم أكن أُريد سوى قليلاً من اللحظات مع هذا الكمان. كنت أسرق الوقت كان احظى بخلوة معه!. حتى الوحدة كانت محرمة بالنسبة لي.
تفتحت عينياي على الألم تجرعت العذاب علقماً سرى في أوردة دمي و العروق. لم أعرف للحنان معنى، فخارطة الطريق فُقدت عندما فَقدتْ أمي وسرقها الموت مني قبل ان ترضعني المحبة والأمان. فوجدت نفسي في مواجهة الحياة مع زوجة اب بقلب شيطان و اب غائب. ولأني أضعف من أن أهرب وأترك البيت هربتْ إلى دنيا الألحان علني أُريح القلب العليل، واستبدل الدموع بالأنغام. وليكتمل كتاب الوجع كان لابد للآلام من أن تكتب خاتمة الحكاية. وكان على زوجة ابي أن توقع على شهادة وفاتي بحبر دمي. فتهرع لأبي عند عودته من السفر. تروي له روايات لا أصل لها وتسمح لخيالها المظلم ان يشوه صورتي أمام والدي. فما كان له إلا أن يُقطع جسدي الرقيق بالسوط المصنوع من جلد الحيوانات وتخط عصا الخيزران خُطاها على ظهري طريقاً ممهداً يرسلني لمثواي الأخير، على خديّ دمعة ممزوجة بدماءي التي غطت جسدي وفي يدي آخر وتر من أوتار آله الكمان خاصتي. لأعزف معزوفة الوجع الأبدي، ولأتي كل يوم في هذا الوقت في تمام الساعة الثانية عشرة، تدقُ هي معلناً نهاية خمس عشرة عاماً من عمري قضيتهم مع الحزن والآسى كان رفيق دربي الدائم، ويدقُ قلبي من مرقده، تخرج صرخاتي طيفاً يحومُ في سماء النسيان ليذكره كي ينساني!.
نظر الفتى إلى جده في دهشة واقفاً على حافة الجُرف تأرجحه الرياح كما تأرجح الأغصان. لدويِّ انينه صدى يكاد يصل لأعماق البحر!. قال له: جدي أين اختفت ذات الرداء الأبيض لم تعد على حافة الجُرف!. توقفت أنغامها فجأة كأنها لم تكن للتو تشارك الأمواج اللحن!.
قال الجد بصوتِ متشحرجٍ تخنقه غصة، أنا الذي اوقفتها!. أنا الذي قطعت أوتار موسيقاها و أنفاسها! انا الذي حرمتها من الحياة, انا هو ذاك الأب الغائب الذي لم يستمع لابنته قط!. حُرمت من اُمها فحرمتها نفسي!. لم أُحسن الإختيار فتزوجت أفعى أغدقت سُمها في أُذني فنثرته على جسد ابنتي البريئ. قتلتها بيديَّ هاتين ودفنتها بهما أيضا، حينها كنت فخوراً بنفسي فقد غسلت عاري لكني في الحقيقة غسلتُ انسانيتي ودفنتها قبل أن ادفن ابنتي.
بخطى ثقيلة مضطربة بدأ الجد يتحرك نحو الغابة. إلتفت الى حفيده وقال له :اتعرف ما هو القهر؟!. هو ليس الظلم الذي تتعرض له ويترك أثراً في قلبك. القهر الحقيقي يا بنيَّ هو عندما تكتشف أن لا شعور في هذه الحياة يكفي ليصف شعورك. فالغضب وصل مبتغاه والندم أصبح الرفيق!. أنا الماثل أمامك الأب الذي قتل ابنته البكر بدمٍ بارد وأكمل الحياة ظنّا منه بأن رأسه مرفوعة. وهو الذي أزال وصمه العار للأبد. انجب الفتيان والفتيات، ضحك، غنى، وفرح. لم يكن لديه ضمير ليؤنبه. ولم يصحو من غيبوبته إلا عندما اعترفت له زوجته وهي على فراش الموت انها اقترفت ذنباً وجعلته يقتل ابنته. ليتها لم تعترف! ، ليتها لم تطلب الصَفح! جعلتني أبحث عن عن الصَفح في هذا الجُرف!.
انظر حولك لقد نحت اسم ابنتي على جذوع الشجر ورسمت ملامحها البريئة في السماء. تلألأة النجوم كتتلألأ ابتسامتها الطاهرة. لم انسى ولن انسى و لأظل هنا حتى ينساني النسيان كما نسيت أني بشر!.
اخرج من هذه المتاهة ولا تعُد. لا تنسى أنك إنسان فينساك الزمان ويقذف بك إلى هذا الجُرف، يجعلك لعبة في دولاب الأيام، تختلط عليك الحقيقة فتارة تكون تائه مع ذكريات تعيش لحظات قاتلة وأوقات مُميته وتارة هائم في عالم الأشباح تتقاذف روحك الآلآم.
وقف الفتى حائراً هل جاء للجرف للجرف طالباً يد العون أم جاء ليجدد العهد مع ذكريات؟!. إلتفت يمنه ويسره ووجد نفسه وحيداً برفقهِ السماء، النجوم و حافة الجُرف. تضحك الأمواج من تحت قدميه وتصفق الأشجار له تصفيقاً حاراً لترحب به في عالم النسيان!.
أخذ ينادي بصوتٍ عالي، جدي، جدي، أين أنت؟. لا تتركني وحيداً لماذا اختفيت، جدي عُد إليَّ ارجوك.
هبت الرياح و صفعته على وجه صفعة ايقظته من غيبوبته وادرك حينها بأن جده قد رحل عن هذه الدنيا قبل ثلاثة أعوام بعد أن قضى باقي عمره مع القهر و الندم في كوخ خشبيّ وسط غابة الموت المطلة على جُرف النسيان.
يتبع...