الثاني

22 2 0
                                    

مرَّ عامان وسبعة أشهر وثلاثة أسابيع ونحن نتبادل الرسائـل عبر البريـد.


كنتُ أحكي له عن صديقاتي.


كلما رأتني إحداهن أُمسك بقاموس الإنجليزيـة، بينما أحاول تعلم الكلمات أو تهجئتها، تشي عني للأخريـات وأصبح أضحوكتهن؛ يريـن أن أمري مُبالغ فيه، وأن رسائـله الحبيبـة ليست إلا من عابثٍ يتسلى.


لكن ذلك لم يعنني يومًا.



«كلماتـك ليست كاذبـة.. لدي إيمان كبير أنني لن أنتظر كثيرًا وأنـك ستـأتي ذات يوم.


ربما كان خوفي الوحيـد أن تنفر مني لبشاعة خطي أو ركاكة عباراتـي».



في العام الثالث جاء إلى بيتنا شابٌ يُدعى أحمد، استقبلتـه أمي؛ فـوالدي مات في الحرب قبل عشر سنوات.


رغم موت أبي وغياب أخي الوحيد، ورغم ضيق اليد فإن، إلا أن أمي أحسنت ضيافتـه؛ استعارت من جارتنـا أكوابًا زجاجيـة تُفكر المرأة ألف مرة قبل أن تُخرجها من خزانتـها، لكنها لم تُفكر كثيرًا، لأن أمي أخبرتها أن ضيفنا جندي من طرف أخي.


إلى أن ينقضي ذلك العام، عامي الأخير في المدرسة، منعتني أمي أن أخرج من البيت.. إلا للمدرسة؛ فـأرسلت علي -ابن الجيـران أيضًا- ذو العشر سنوات، إلى الدُّكان ليرجع خالي الوفاض بوجهٍ مبتئس.


حدقت فيـه أمي وسألته بعينين قلقتين:


- أين الـبارد والجُبن و...


- لم يرضَ أن يعطني شيئًا، وسبني أيضًا...


أشارت أمي بسبابة مرتجفة إلى شفتيها وعينين واسعتين مصوبتين على الجدار الذي يفصل بيننا وبين الضيف؛ فـأخفض علي صوتـه واستطرد:


- قال لي: قُل لها أن تُسدد شيئًا من ديونها الكثيرة أولًا ثم تُفكر في شرب البارد.


ازداد عبوسًا وسكت، فـانحنت نحوه أمي وهمست له بما لم أسمعـه، لكنـه عاد بعدها بدقائق يحمل بين يديه ورقة الدُّكان البنيّـَة ملآى على آخرها، ثم رأيت أمي تُخرج منها كل ما طلبتـه!


- كيف وافق أن يُعطيك كل هذا! بماذا أخبرتك أمي؟


سألته هامسةً، ليهز كتفيـه قائلًا بنبرة طفولية متبرمة:


- طلبَت أن أقول له هناك ضيف من طرف أخيكِ هُنا، ولا بد أن نُضيِّفـه شيئًا، أخبرتُـه فـابتهج كثيرًا كأن ذلك الجندي أتى وجيوبـه مكتظة بـالمال مثلًا!


- عجبًـا! لقد ذهبت إليه أمس لأخذ عبوة شاي فقط فكاد يضربني في الشارع!


- لو رأى ضيفنا ما أعطانا شيئًا.. هـه!

تحت رمال الشاطئ - ندى فرج - قصة قصيرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن