أشعر بالقلق ... لا أدري لماذا تحديدا لكن الشعور في داخلي و لا أستطيع إنكاره ...
لم أغادر المنزل منذ أيام، و كنت أكتفي من حين إلى أخر بالصعود إلي السطح لإستنشاق الهواء و مشاهدة الأفق ثم النزول ثانية... أنا بصدد الإنتهاء من قراءة الرواية الثانية..و هو الشيء المفيد و الوحيد الذي قمت به خلال هذه الأيام على كل حال .
كنت في إنتظار صديقتي التي أخبرتني أنها ستزورني اليوم في تمام الساعة الواحدة بعد الزوال ، تكاد الساعة الثانية تحل و الباب لم يطرق بعد .شعرت بالملل و قليل من الغضب !
بينما كنت أنتظر قدومها فتحت التلفاز لأشاهد أخر الأخبار ...
مجددا ، صراع اليمين ضد اليمين ، بكل تهريجه و قبحه ، لا ينتهي ..
قال تميم البرغوثي يوما : "إن النظام ،أي نظام ،لا يسقط إن بقيا منه شيء ."
يبدوا أنه كان صائبا .و أما البرامج التلفزية "الترفيهية " فلا ترقى أن تكون جلسة لنسوة الحي..
زاد شعور القلقل بداخلي ...
لن تأتي... بلغتني رسالة منها تقول فيها أنها مشغولة بمساعدة والدتها و لن تقدر على المجيء اليوم.. " ربما غدا أأتي" هذا ما قالته في نهاية الرسالة .
غدا ؟ لكن كيف سأنهي هذا اليوم بمفردي، أو بتعبير أصح كيف سأنهي ما تبقى من اليوم بمفردي ؟قررت مغادرة المنزل...
إرتديت ملابسي و غادرت في تمام الساعة الثالثة عصرا.
إتجهت، رغم ترددي في البداية ، نحو الميترو - رقم أربعة -و فكرت أني لن أنزل منه طوال رحلة الذهاب و العودة و سأكتفي بالجلوس و مشاهدة الطريق من النافذة.لم يحدث ذلك .
سرعان ما إمتلئ المترو بالركاب، و إمتلاء هذا الأخير يعني، حسب العرف، أنك ستترك مقعدك غالبا لأحد المسنين ، و ذاك ما حدث فعلا.
خسارة مقعدي جعل من رحلة الذهاب و العودة دون النزول فكرة سيئة، لأنها بكل بساطة ستكون مرهقة .
تغيرت الخطة و قررت النزول .نزلت و أكمل الميترو الرحلة دوني، و لأني لم أعرف أين سأذهب و لم يخطر ببالي أي مكان محدد، جلست في المحطة أستجمع أفكاري. وقد كانت المحطة خالية تقريبا، إذ لم يوجد بها غيري و شاب طويل القامة برفقته فتاة جميلة.
شعرت بأني شخص غريب دخل منزل أحدهم دون إستئذان، كان الشاب و الفتاة - كما يبدو- يتصرفان بأريحية قبل قدومي ، و هاهما الأن ينظران نحوي بشكل مريب، و إن كانا يحاولان عدم إبراز ذلك، حتى راودني شعور بأني قطعت خلوتهما .
لم أطل الجلوس، غادرت المحطة أسير دون عنوان حتى قررت التوجه للحانة ، ملجئ من لا ملجئ له .
*****
كنت أشرب الزجاجة الثالثة حين تفاقم الشعور القلق داخلي .شعرت بأني موجود طوال حياتي على الهامش ، لا أحد يلاحظني، كأن جسدي شفاف أو ربما كنت شبحا ، حياتي كلها مرت، و أنا أبلغ أربعين سنة بالمناسبة ، دون أي شيء مميز بها لا في فترة الدراسة و لا أثناء العمل ، لم أكن يوما طالبا مميزا و لن أكون يوما عاملا مميزا .
شربت الزجاجة الخامسة و ذلك الشعور لم يفارقني بعد .
كنت أشعر بعدم الرضا عن نفسي ، عن الوطن و عن كل الناس من حولي ...
فكرت في والدي ، عشت في نفس المنزل معه ل25 سنة و لم أشعر أنه رئاني يوما ، كان يذهب لشغل صباحا و يعود من شغل مساءً و ينام بين ذاك و ذاك ، لم يفعل شيئا أخر طوال حياته ، لا أذكر تحديدا متى توفي، لكني أذكر جيدا أني لم أشعر بحزن كبير لذلك ، كان مثل أحد الجيران بالنسبة لي .شربت الزجاجة الثامنة ، شعور القلق لا ينتهى ...
فكرت في الوطن ، لطالما شعرت بالحقد يمتلكني كلما فكرت به ، سنظل نحن ، هذه الطبقة الشعبية المسحوقة نعيش حياة بائسة لا تنتهى ليعيش أولائك القلة التافهة حياة الرفاه ، حتى تحول هذا الوطن بالنسبة لي إلي سجن، هو شبيه بسجن عادي، لا يمكنك مغادرته إلا من خلال الهروب خلسة ، و لا يمكنك أن تعيش داخله حياة عادية كما يعيش باقي البشر في تلك البلدان الأخرى، في تلك البلدان "الجميلة"، و هو مختلف عنه -أقصد السجن العادي - في أن قضبانه بعيدة بشكل لا يمكنك أن تراها و مساحته، نسبيا، شاسعة بحيث لا يمكنك أن تقطعها سيرا .
شربت الزجاجة .. لا أدري كم شربت توقفت عن العد لكني لم أتوقف عن الشعور بالقلق .
فكرت في صديقتي ، بدأت أشعر بشيء من الحب الحقيقي نحوها ، لم أشعر بذلك سابقا مع أي فتاة لكني لا أظن بأنها تبادلني نفس شعور ، لطالما تجاهلت رغباتي ، من يحب لا يتجاهل ، أنا لا أتجاهل.
تجاهل رغباتي يغذي إحساسي بأنني لا مرئي حتى و أنا بجوارها .أحيانا أتمنى لو كنت شبحا فعلا .
*****
أن أكون موجدا حقا ، أن أُرى ، ذلك كل ما كنت أرغب به في تلك اللحظات في الحانة .
نظرت في كل الأرجاء كان الجميع مهتما بشؤونه ، بعضم في مجموعات و البعض الأخر وحيدا ، مثلي .
أردت أن يهتم بي الجميع أن ينظروا في تجاهي ، تملكني ذلك الشعور و لم أستطع مقاومته .
حملت زجاجة البيرة التي كانت ممتلئة حتى المنتصف أنذاك و أتجهت لأول شخص إعترضني و بكل الحقد و الغضب الذي إمتلكني ضربته بزجاجة على رأسه .
حينها فقط نظر كل من في الحانة نحوي ، حينها فقط كنت موجودا و مرئيا .
لم أذكر الكثير بعدها ، تطايرت الأيدي نحوي دون توقف حتى وقعت أرضا ثم نزلت الأرجل على جسدي كأنها حجارة .
حين أستيقظت كنت في المشفى ، وحيدا كالمعتاد ، حاولت الوقوف لكني لم أستطع ، فأنتظرت حتى أتت الممرضه، قالت أنهم أحضورني ليلة الأمس من الحانة ، و أني قد تعرضت لكسور على مستوى الأنف و الأرجل ، سألتها عن رجل تم ضربة بزجاجة بيرة فقالت أنهم أحضروه أيضا لكنه غادر المشفى وحالته مستقرة .المضحك في الأمر أني لم أقابل ذلك الرجل أبدا ، لم يحضر حتى يوم المحاكمة ، ربما لم يرد رؤيتي !
حٌكِمت بعدها بالسجن لمدة سنة و حين غادرت كان شعور القلق مزال بداخلي و بدا أنه لن يتوقف أبدا .
إنتهت .
8/8/2022