لا بد من استئناف البحث، ولكن كيف؟ من منظور المؤرخ ... يجب، دون «جداول تحليلية، أو تحيز أيديولوجي، تتبع الجنون والمجنون واقتفاء أثر هذا الأخير منذ ظهوره في تاريخ البشرية، وتضييق نطاق البحث على نحو تدريجي للوصول إلى النتائج المتعلقة بقارة أوروبا ثم بفرنسا؛ وذلك باتباع نهج يعتمد على التسلسل الزمني لمتابعة كل ما طرأ على هذا الموضوع من مستجدات حتى يومنا هذا.
فبعد أن شغل المؤرخون لفترة من الزمن بالمذهب التصوري الذي كان قد اجتاح العلوم الإنسانية، عادوا اليوم على استحياء إلى ما كانوا قد رفضوا الاعتراف به حتى لا يتهموا بانتمائهم إلى مذهب الوضعية المحدثة»
وهو:التسلسل الزمني والأحداث والتاريخ الكمي .... فالأحداث دائما ما تكون عنيدة! إنه بحث طويل يمتد على مدار أكثر من ألفي عام لملاحقة الجنون ... بحث ميداني كيف كان المجانين في الواقع المعاصر، ومتى ظهروا، وأين؟ ما حجم المشاكل التي تسبب بها الجنون منذ قيام الحضارات الأولى؟ وما الاستجابات النظرية والعلاجية وردود الفعل الاجتماعية والقانونية التي قدمتها المجتمعات إزاء هذا المرض؟
فضلا عن ذلك، ألا ينبغي أن يكون عنوان هذا الكتاب «تاريخ الطب النفسي» بما أنه يبحث في الجنون باعتباره مرضًا؟ كلا، وذلك لعدة أسباب: أولها أن «الطب النفسي» تعبيرا واصطلاحًا لم يظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر
( في عام ١٨٠٨ على يد رايل في ألمانيا، ثم مر وقت طويل - عام ١٨٤٢ - حتى تم إدراج هذا المصطلح في قاموس الأكاديمية الفرنسية. ولكن لأن الحديث عن الطب النفسي وتاريخه أو عن الأمراض العقلية)
بالنسبة إلى الفترات السابقة على وجه الخصوص، ربما كان سيعد خطأ في المعنى أسوأ من ملاءمة التسمية؛ وذلك لأن اختراع الطب النفسي، جاء كمرحلة فاصلة في تاريخ الجنون الذي كان قد بدأ بالفعل قبل ذلك بكثير.وفضلا عن ذلك، فعنوان الكتاب
«تاريخ الطب النفسي»
يشير إلى المجال الطبي وحده وهو المجال المركزي بالطبع، ولكننا نود كذلك إحكام الصلة بين هذا المجال وبين سياقه التاريخي والثقافي.
وبقدر ما نرغب في رصد تاريخ المرض نفسه وتطور توصيفه يهمنا استعراض تاريخ الاستجابات العلاجية وردود الفعل الاجتماعية إزاء هذا المرض. ذلك أن الجنون ليس كأي مرض آخر.
إن إدراك البعد الأنثروبولوجي للجنون يُعد أمرًا أساسيا لفهم تاريخه:
«إننا لا نصبح مجانين برغبتنا، فقد تنبأت الثقافة بكل شيء. ففي داخل عملية الاضطراب العصبي، والتي نسعى إلى الهروب منها من خلال الاضطراب العقلي تأتي الثقافة لتحدد لنا شكل الشخصية البديلة التي يتعين علينا تقمصها»-----------------------
يتبع
البارت القادم والأولالعصور القديمة وجذور الجنون
أنت تقرأ
تاريخ الجنون
Fiksi Sejarah[ تاريخ الجنون ] يتردد من قول مأثور يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر " إذا أردت أن ترى مجنونًا، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة" والحقيقة، ليس هذا هو الجنون - الشائع بين الجميع - الذي تعنى هذا بدراسته، وإنما ما يعنينا هو دراسة تاريخ الجنون ا...