على ضفافِ النّهر ، لمحتهُ جالسًا لا أَحَدَ بِقُربِه ، غيرَ همومِه ، كان شارِدًا ، وشفتاه تنبسانِ بكلماتٍ غيرِ مفهومة ، اقتربتُ منهُ ..ثمَّ سألتهُ :
- لماذا أنتَ هُنا ، ومعَ من تتحدّث ؟
مرّت دقائِق ، دونَ إجابة..
بعدها التفَتَ إليَّ وقال بصوتٍ يشبهُ حفيفَ الشجر : أشكو للنَهَرِ ما يعتريني .
استغربتُ ، وسألتهُ :
-وهَل يُعيرُكَ اهتمامًا ؟!
- نعم ، أُنظر كيفَ يجري بسرعة ، إنهُ يَبكي .
صمتُّ لوهلة ، ثم سألتهُ مرةً أخرى :
- وكيف عرفتَ أنه يبكي ؟
دون أن يلتفتَ إليَّ هذهِ المرة ، أجاب :هوَ يفعل .. ذاتَ مرّة ، تَرَكتُ حُزني على جُرفِ النَهر ، لعلّهُ - ولو لمرّة- ينجرفُ مع الماءِ، ليبكيه الشلالُ بدًلا منّي .
عُدتُ في اليومِ التالي ،
رأيت النهرَ قد جفَّ ، والأسماك أضحَت ميتة!بعدّ كلماتهِ ، وبعدَ أن عرفتُ أنَّ النهرَ قد أفنى ماءَ مآقيه لأجلهِ ، فهمتهُ، وشعرتُ ببعضِ الحنين للطبيعة، والجمادات ، وعرفتُ أنها أجدرُ بالشكوى من البشرِ .
جلستُ إلى جانِبه ، محدّقًا في النهر ، وملتحفًا الصمت .
بعدَ قليلٍ ، التفتَ نحوي ، ثمَّ سأل :
ما هوَ البكاءُ بنظرك؟
أجبتهُ - جوابَ من قَد غصَّ بالحروف - :البُكاء ؛ تلكَ الكلماتُ التي أوقفنا سيلها بحجارةِ الصمتِ ، على أَطرافِ ألسنتنا، فعادت عبرَ محاجرنا .. بطوفانٍ جارِف !
علا هديرُ الماءِ وكأنهُ يصدّقُ ما أقول ..
ردَّ عليَّ بسؤال ، وربما ليسَ هوَ بل يَأسُه :
ماذا عن البكاءِ الصامت ، الذي بلا دموع ؟!
تأملتُ عينيه الجافتينِ ، ثُمَّ قلتُ له :
بكاءٌ صامِت؟ ..
ذاكَ الذي يذرِفُ الكلمات لا الدموع ، الذي تبكيه الروحُ لا الجَسَد، الذي يستُرُ عُريَ حزنهِ وشاحُ الكتمان .
ذاكَ الذي تلتحفهُ الروحُ حينُ لا تعطيها الأيامُ مُهلةً لتتنهّد، فتحملُ غيومَ حزنها وتمضي ، ماطرةً على داخلِ روحها القاحلة ، بدموعٍ تنبتُ شوكًا لا وردًا .
بكاءٌ صامِت ، لا يحتاجُ عيونًا ليُبكى ، يمكنُ أن يظهرَ على عيونِ السطور ، أو على قصائدَ مغرورقةِ العينين، ما يقلقُ فيه ، أنهُ لا يُرى ، فيطول ، أبدا ..سكتَ .. متأمّلاً إجابتي، وكأنهُ يستسقي منها الدمع ، ثمَّ نهضَ وسارَ في سبيلهِ تاركًا إياي والنهرَ الحزين ، في الماضي .
- أسامة
أنت تقرأ
على ضِفاِف النهرِ الحزين
Short Storyفي مجرى نهرٍ باكٍ رأيت الحِصى مثل أعينٍ عالقة في الفجيعة وعرفت لمَ بعضُ الأنهارِ يجري إلى الأبد. --------- * لا أسمحُ بالإقتباس . تاريخ الكتابة ، 6 أكتوبر / 2022.