ــ عبقرية ديستويفسكي

177 5 0
                                    


التهويمات المجردة، الأفكار المضرجة بالدم والدموع لنفس حية .
دوستويفسكي يصور بجسارة أناساً فقدوا الإيمان . . . تخلي الإيمان عنهم . والسؤال الذي يعذب الكاتب هو : فماذا لو
أن النزعة الإنسانية راحت إذا تنقرض وتفنى؟ كيف نواجه ذلك وندفعه
عنا؟ وما الذي يجوز للإنسان أن يفعله؟ هل يجوز له أن يتصرف في
أقدار الآخرين وحياتهم من أجل مصلحة الآخرين؟ الذي يقتل فيدور
کارامازوف؟ كيف يدور الصراع بين الخير والشر في النفس البشرية؟
أئمة خلود؟ ومن أين يأتي الازدواج والثنائية في الإنسان؟ . . . إنه يدرس
قضايا الوجود، والعذاب . والشر، والحب، والجريمة، والجنون،
والأهواء، والمنفعة المغرضة .

مهموم
لقد تميزت عبقرية دوستويفسكي الفنية بقوة فلسفية هائلة ، وهو
دائماً بالقضايا الجذرية، الحاسمة. والأدب بالنسبة له وسيلة
تفكير، والكاتب عنده لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة
بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل وأيضاً بالتفكير المضني
في مغزى الحياة. تلك هي قوة دوستويفسكي، وذلك هو المثل الذي

يقدمه للأدب المعاصر.
إن مؤلفاته خالية من الأمور العادية، فقد كان قادراً على رؤية خيالية

الحياة الروسية .

كل ما يجري يجري في أكثر المدن واقعية، إذا جاز التعبير، ومع

ذلك فكل ما يجري خيال ، ليس هناك شياطين مرعبة، ولكن الواقع
تزحزح قليلاً، وأحياناً بدرجة لا تلحظ ، ولذا فقد ظهرت إمكانية النظر
في فجاج ومهاو لم تكن تخطر لنا على بال .
قراءة دوستويفسكي أمر صعب، وأحياناً تثير الشعور بالضيق، فما


السبب؟ إن رواياته تخلو من المشاهد الطبيعية وليس فيها تلذذ .بوصف الأحداث المرعبة وأعمال العنف المقبضة. ولكن هذا السؤال صعب
ولا أستطيع أن أتصدى للإجابة عنه، وبودي فقط أن ألفت النظر إلى
إحدى خصائصه، إلى أحد جوانب عبقريته والذي يبدو وكأنما يكشف
أمرنا .

أريد أن ألفت النظر مثلاً إلى قوله في «المراهق»: «الإحساس
الإنساني العادي ببعض السرور عندما تقع مصيبة للآخرين، أي عندما. تنكسر ساق أحدهم، أو يـتـلـطـخ شرفه، أو يـفـقـد عـزيـزاً لديه . .
الخ . . . » أو قوله في مشهد الكارثة التي أصابت آل مارميلادوف في هذه
الرواية : . . . . فهاهم أولاء سكان البيت يتجهون نحو الباب واحداً بعد
آخر، وهم يشعرون بذلك الإحساس الغريب، إحساس اللذة الذي
يلاحظ دائما حتى لدى أقرب الأقرباء حين يرون شقاء يحل بقريبهم،
وهو إحساس لا يخلو منه أي إنسان مهما يكن إحساسه بالأسف والشفقة
صادق ...»

بالطبع لا يريد أحد أن يـكـتـشـف فـي نفسه مثل هذا. ولكن
دوستويفسكي يجبرنا بطريقة ما على أن نجد في نفوسنا الشيء السيىء،
وأن نعثر فيها على تلك الأهواء التي تعصف بأبطاله . وعلى هذا نصبح
وكأننا مشاركون، ومذنبون نحن كذلك، وها قد افتضحنا وانكشف
أمرنا . . . ويتضح أننا لسنا أفضل من هؤلاء الأبطال، بل إننا مستعدون
لارتكاب ما ارتكبوه . وحينما تتحدث رواية «المراهق» عن أ
أن الإنسان
قادر على أن يرعى في روحه أسمى المثل إلى جانب أحط الدناءات،
وكل ذلك عن صدق خالص . . . فهل هذا الكلام عن أناس الماضي
فحسب؟

عندما تقرأ دوستويفسكي ينتابك الخجل .
وهذه أعظم سمة من سمات عبقريته، وينبغي علينا أن نتعلمها إذا كان من الممكن تعلم


. تشعر بالخجل وتشعر بتأنيب الضمير، ولذلك تصعب القراءة .
فهو يجبرك على أن تخجل وتستحي، ويقضي على كافة محاولات
التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. وما أبرعه في تصوير
والنفاق والرياء والقسوة! كلا ، كلا هذه ليست عبقرية مريضة، بل
الأقرب إلى الصواب إنها موهبة شافية، ليست قاسية بل إنسانية ، أليس
من الجائز أننا عندما نسعى بكل جهدنا إلى تصوير المظاهر الطيبة
والجميلة والسامية والفاضلة وحدها، وعندما نختار ونمدح أفضل
النماذج وأكثرها مثالية فحسب . . . أليس من الجائز أننا بذلك نحمد
يقظة الضمير ونضعف التشدد، وتنافق الناس والشعب ، إن المكانة التي
تبوأها الأدب الروسي إنما تعززت أساساً بفضل ما قام به دوستويفسكي
من فضح لا يكل للرذائل والضلالات. ولم يشارك في هذا العمل
دوستويفسكي وحده بل الأدب الروسي كله، الذي تحلى بشجاعة أن
يقول لشعبه كلمات الغضب والحزن . . .

وليس من السهل اليوم أن تهز ضمير الإنسان المعاصر، فهو محضن
بسياج دفاعي متين . ولكن دوستويفسكي يستطيع، كما لا يستطيع أحد
غيره، أن يخترق الحواجز والدفاعات، وهو في ذلك واحد من أكثر
الكتاب معاصرة لنا .

وابداع دوستويفسكي يحفز الفكر، وقد أثر على أكبر الفلاسفة
وعلماء النفس والعلماء في العالم. والكتب التي وضعت عن
دوستويفسكي تثير الاهتمام بما تتميز به من قيمة فلسفية وعلمية مستقلة .
وهي بحد ذاتها رائعة .

الفنان وحده، والكاتب في المقام الأول، هو الذي يستطيع أن يساعد
الناس على اكتشاف حقائق جديدة عن أنفسهم. وبهذا المعنى كان
دوستويفسكي وسيبقى مفخرة لروسيا وللأدب الروسي وللأدب
العالمي . ولتاريخ الفنون الطويل كله .




« الجريمة والعقاب » حيث تعيش القصص. اكتشف الآن