« الفصل الثاني »

160 4 0
                                    


                                 ••

الازدحام، والكلس المنتشر في كل مكان والسقالات، والأجر، والغبار، ثم ذلك النتن الصيفي الخاص الذي يعرفه كل ساكن من سكان
بطرسبرج لا تتيح له موارده أن يستأجر بيتاً صيفياً في الضواحي . إن اجتماع ذلك كله قد أثار أعصاب الشاب الذي كانت أعصابه مهتزة من
قبل فأورثه مزيداً من الضيق ، وهذه روائح كريهة تنشرها خمارات كثيرة جداً في هذا القسم من المدينة، وهؤلاء سكاري يلقاهم المرء عند كل
خطوة رغم أن اليوم ليس يوم الأحد بل هو يوم عمل، فتصطبغ اللوحة بلون حزين منفر. إن شعوراً عميقاً بالاشمئزاز يرتسم للحظة على
القسمات الدقيقة من وجه الشاب ، والشاب حسن الصورة وسيم الطلعة، له عينان دكناوان رائعتان، وشعر أشقر ضارب إلى لون كلون الرماد، وقامة فوق الوسط طولاً، نحيلة ممشوقة . ولكنه لا يلبث أن يبدو عليه الاسترسال العميق في التفكير، أو قل الانحدار إلى نوع من الغيبوبة. وظل يسير
لا يرى من حوله شيئاً، ولا يرغب في أن شيء . كل ما هنالك أنه كان، بين الفينة والفينة، يستأنف محاورة نفسه ، جرياً على عادة إلقاء مونولوجات ، تلك العادة التي اعترف بها لنفسه تلك اللحظة نفسها أن خواطره وأفكاره تختلط وتضطرب من حين إلى حين، وأنه ضعيف جداً : إنه لم يكد يأكل شيئاً يرى أي الآن. وأدرك في منذ يومين.


وكان يرتدي ثياباً تبلغ من الرئاثة أن شخصاً آخر غيره كان لا بد أن يشعر بضيق وحرج، مهما تكن عاداته المكتسبة، إذا هو خرج في وضح النهار بمثل تلك الأسمال . الحق أن هذا الحي ليس من الأحياء التي يمكن أن يستغرب فيها الناس منظر رداء. إن هذا المكان القريب من «سوق العلف»(3)، الذي تكثر فيه محال من نوع خاص، والذي يتألف سكانه أساساً من صناع وحرفيين متكدسين في هذه الشوارع والأزقة من مركز بطرسبرج، يشتمل على تنوع كبير في الأفراد يستغرب معه أن يدهش أحد من شخص متفرد بعض التفرد. على أن نفس الشاب قد بلغت من فرط الامتلاء بالاحتقار الكاره أنه رغم ما يتصف به طبعه من شدة التأذي الذي يتميز به أحياناً الشباب، كان لا يشعر بخجل كثير من عرض أسماله البالية في الشارع. ولا كذلك إذا هو التقى بأشخاص يعرفهم أو برفاق قدامي لا يحب على وجه العموم أن يختلف اليهم . .
ذلك حين أعول سكير كان مقوداً (لا ندري إلى أين ولا لماذا) في عربة كبيرة يجرها حصان قوي، حين أعول هذا السكير على حين فجأة
بصوت مجلجل وهو يومئ إليه بيده : «هيه، أنت يا صاحب القبعة الألمانية!»، فإن الشاب توقف بغتة، وقبض على قبعته بحركة عصبية .
هي قبعة عالية مشتراة من عند تسيمرمان(4) لكنها قد اهترأت اهتراء تاماً، واحمر لونها، وغشيتها البقع وثقبتها الثقوب وزالت حافتها وانطوى أحد طرفيها حتى صار زاوية بشعة كريهة . على أن الشاب لم يـ بخجل، وإنما استولت عليه عاطفة أخرى تشبه الهلع .

قائلاً

ودمدم يخاطب نفسه مضطرباً :

«كنت أعرف هذا حق المعرفة . . . . قدرته من قبل! . . ذلك أسوأ ما في الأمرأ تكفي ترهة سخيفة من هذا النوع، يكفي أمر تافه كهذا، حتى
بتعرض كل شيء للخطر! نعم، إن هذه القبعة صارخة . . . هي مضحكة ، وهي لذلك صارخة .
.. . . ما دمت أرتدي هذه الأسمال البالية
فلا بد لي من قلنسوة، أو من أية طاقية عتيقة، أما هذه القبعة الفظيعة فلاا . . ما من أحد يلبس قبعة كهذه القبعة، إنها ترى من مسافة فرسخ
كامل.. ومن رآهـا مـرة يـتـذكـرهـا ولا ينساها . يـتـذكـرهـا فـي المستقبل . فتكون هي الدليل القاطع ... إنني أحتاج الآن إلى أن لا ينتبه إلي أحد! . . إن الأشياء الصغيرة هي التي لها أكبر شأن وأعظم خطر! . . هذه الحقيقة، إن أشياء صغيرة كهذه القبعة هي التي تفسد كل شيء في آخر  الأمر دائماً . . »


لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 24, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

« الجريمة والعقاب » حيث تعيش القصص. اكتشف الآن