الوجه الثاني للوجع

851 27 0
                                    

الــوجـــه الــثــانــي

بعد يومين
الثكنة العسكرية
" الوجع .. أن تحيا و كلك ميت "

ذلك كان وصف لحالة كاسر الذي ينظر ليده المجروحة دون أن يشعر بذرة ألم ، فجروح القلب تعددت و اختلفت و ما عاد يفرق بين وجع و آخر فرحيل نورس عن شواطئ قلبه أرداه موحشا و باردا ، لا يهتم إن عاش اليوم أو الغد فصار يشعر بالوحدة وسط جموع الناس ،
يشعر بالحزن في أسعد أيامه
و غايته الوحيدة أن يجد موطئا للراحة ، كتفا يستند عليه ، شخصا يحتاجه فيجعله يتمسك بالحياة
حياته صارت مملة و روتينية ، يستيقظ لينام
لا عائلة ، لا حبيبة ، لا أطفال ، الوجع فحسب
التقط مجموعة من المحارم الورقية و وضعها على جرحه ثم غادر نحو ما يفترض أن يكون عيادة مؤقتة ، عند عتبة الباب المفتوح كان يرى مرام التي تتحرك وسط الحجرة ترتبت الأغراض و تحادث نفسها قائلة :
- يجب أن تتصرفي بهدوء ، الرجل يكرهك ، ليس و كأنك تطيقينه أنت الأخرى لكن احرصي على تجنبه ، ابقي مكانك و لن تقابلي خياله .
تنحنح كاسر بصوت مرتفع جعل الطبيبة تنتفض و تستدير نحوه متسعة العينين ، حتى أنها حاولت تجميع الحروف في نسق صحيح فلم تستطع من توترها المبالغ فيه
قال يدعي الجهل :
- من هذا الذي أزعجك إلى هذا الحد ؟ .
هزت رأسها نافية و لم ينقذها من الموقف سوى انتباهها للدماء التي تخطي يد كاسر و معصمه فسارعت نحوه و هي تردد :
- يدك تنزف ، اجلس حضرة الرائد .
استجاب لطلبها فشرعت في تنظيف جرحه و تفقده دون أن تتوقف عن الكلام ، فتارة تمنحه موعظة تحسيسية في ضرورة الانتباه و أنه لولا حظه لأصاب شريانا ما ، و تارة أخرى تردد عليه ما يجب أن يفعله كي ينظف الجرح ، ما يزعجه ليس ثرثرتها فحسب بل طريقة كلامها ، فتبدو كأنها تعاتبه مع أنها تتصرف بعفوية
- ها قد انتهينا ، احرص على غلق النافذة بلطف أكثر حضرة الرائد فالزجاج خطير .
- سآخذ نصائحك بعين الاعتبار حضرة المرشدة الاجتماعية
اشتعلت ملامح مرام غيظا و هي تراقب الرائد المغرور يتحرك من مكانه ليغادر غير أنه توقف فجأة و استدار نحوها قائلا :
- إن انتهى عملك باكرا فلا داعي لبقائك هنا طويلا ، و إن أزعجك أحدهم فلا تترددي في إخباري .
لم يكن ما أثار عجبها هو قوله و إنما ابتسامته الصغيرة التي منحها إياها قبل مغادرته و التي جعلتها تقف مكانها تناظر ظهره العريض بحيرة
أتراه بخير ؟ فكيف انقلب حاله من النقيض إلى الآخر في ظرف ثوان خاصة بعدما سمع حديثها مع نفسها و اعترافها الصريح بكرهه
عليها فقط تحمله لبضعة أسابيع و بعدها لن تضطر لرؤية وجهه البشع
لا ليس بشعا فمن هي لتكذب
الرجل وسيم
هزت رأسها برفض تعنف نفسها قائلة :
- سحقا له ما دخلي أنا ، فليتركني و شأني فحسب .

*
*
*

بين الجبال

بين الأحراش و الأشجار الكثيفة استقرت المجموعة الإرهابية ، منذ يومين و حيان يتنقل معهم من مكان إلى آخر ، يتخذون من المغارات و الكهوف ملاجئا حفظ أماكنها جيدا حتى الطرق التي يستغلونها
القائد الميداني الملقب بالهمام وضع خريطة كبيرة للطريق على الأرض و أخذ يشرح لهم مراحل تنفيذ الكمين ، ما يثير غضبه هو المعلومات الدقيقة التي يحصلون عليها ، عدد السيارات و مسارها ، عدد الأفراد بل ساعة الانطلاق و الوصول
مكث إلى جانبهم لنصف ساعة كاملة ، صامتا ، هادئا كأنه لن يطلق الرصاص على رجال وطنه
ربما لن يقتل منهم أحدا إلا أنه لا يملك لهم غير الدعاء فإن قتلوا فلن يحرك ساكنا لأن مهمته تقضي بجلب أكبر عدد من المعلومات و القتل لن يتخذه إلا في الوقت المناسب
و ذاك الوقت لا يملك تقديرا أو تعريفا عدديا و إنما عليه أن يدركه لوحده و ما زال حتى هذه اللحظة ينتظر
أخذ القائد يوزع أفراد المجموعة على المنطقة ، كانوا من الجبن أن يهاجموا من مسافات بعيدة ، يتحصنون خلف الأحجار و الأشجار
و من النذالة أن يستغلوا آيات قرآنية ليؤولوها حسب أهوائهم فما كانوا يقولون سوى بهتانا فويل لهم مما يفترون .
كان يرى بوضوح اقتراب ثلاث سيارات رباعية الدفع تابعة لقوات الدرك الوطني ، الرصاصة الأولى انطلقت تلاها وابل من الرصاص و السيارات تخرج عن مسارها و الجنود يترجلون ثم يتوزعون و يبدأ الاشتباك
الحمقى الذين يستقر وسطهم يهتفون بالشتائم و القول الشنيع و صراخهم لا يتوقف
في حين اكتفى هو بإطلاق الرصاص على بدن السيارة أو الطريق على مقربة شديدة من رجال للدرك دون أن يظهر تردده و بين كل طلقة و أخرى يردد "رب سدد رميي و لا تجعلني قاتلا لروح بريئة"
صرخ داخله و التهبت مواجعه و ثلاث جنود يسقطون أرضا
و مع السياسة التي ينتهجها الإرهابيون "أطلق النار حتى ينفذ رصاصك " إضافة إلى الغلبة في العدد فقد بات يرى أن الوضع سيزداد تأزما
سمع الرجل الذي خلفه يصرخ به :
- لا تطلق النار دون فائدة ، أنت لم تصب أيا من أولائك المرتدين !! ..أيها المرتد الخائن !! .
منحه حيان نظرة من طرف عينه و عقد العزم على تنفيذ ما يخطط له ، ثبت سلاح الكلاشنكوف جيدا على كتفه و ركز تماما على هدفه ، تمتم في سره بالدعاء ثم ضغط على الزناد فسقط جندي آخر و حينها فقط شعر بالاطمئنان على استمرارية مهمته بينما القلق الأعظم كان ينتابه حول الرجل الذي أصابه ، قد استهدف ذراعه و يتمنى فقط أن يصل الدعم قريبا و إلا فإنه في ورطة عظيمة
استمر الاشتباك لنصف ساعة أخرى و قد أخذ القلق يعبث بدواخل حيان ، خاصة و التعب قد أنهك الجنود و في اللحظة التي ذبلت فيها ملامحه و ارتدت ثوب اليأس و الأسى أطل الأمل بظهور أربع شاحنات للجيش الوطني الشعبي و انهال عليهم الرجال البواسل بوابل من الرصاص جعل الإرهابيين يقررون الانسحاب يجرون أذيالهم خلفهم من جبنهم من المواجهة المباشرة .
و لأنهم دوما خاسرون و خائبون
يغذيهم زيفهم و افتراؤهم
قوتهم في كثرتهم ، لا وطن و لا علم لهم
أما جنود الوطن فهم الأصدق و الأثبت ، يملكون هدفا أقوم ، و وطنا بحجم الدنيا
و علما مات و سيموت من أجله الرجال
و الحق دوما ينتصر .
كان يسير معهم و داخله يردد
" نحن حماة العلم المنصور
و حراس الميثاق والدستور
نفديك بالعيون والصدور
يا وطن الليوث والصقور"
__________
منتصف النهار
الثكنة العسكرية

عن ألف وجه للوجع ( سلسلة حب الوطن) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن