3

10 1 0
                                    

بدأ خالد في تقديم نفسه والحديث عن عمله باللغة العربية إلى شاهد الذي يجد صعوبة في مجاراة خالد في التحدث باللغة العربية، ليس وهو مستفيق بينما في هكذا حالة من السكر لا يبدو للأعين أنه سيفهم حتى ما يقال بالإنجليزية فقاطعه قائلًا:
-دعني أوقفك هنا، أنا حقا لا أجيد اللغة العربية جيدًا أيمكننا التحدث بالإنجليزية؟
أنهى خالد كلماته بينما يده ترفع الكأس تلقائيًا نحو فمه الدقيق لينتهي من كأسه العاشر لو كنت أعدها، بينما محدثه لم تتذوق شفتاه كأسه الأول بعد فقط ممسكًا بالكأس بينما ترتسم على شفتيه ابتسامة لا يعلم كنهها إلا الله ثم يستطرد قائلًا:
-بالطبع، حدثني عن نفسك قليلًا اسمك شاهد حسن وملامحك تبدو شرقية، وتتكلم القليل من العربية، ومع ذلك لا تعلم من أي بلد عربي تأتي!.
-الحقيقة أنني ولدت هنا، وكذلك أبي وكذلك جدي، وهذا يجعلني أمريكيًا ربما والد جدي كان عربيًا، أما بالنسبة لتحدثي القليل من العربية؛ ذلك لأن أبي كان مدرسًا للتاريخ الشرقي بجامعة بوسطن قبل أن يتقاعد ويعود إلى منزل العائلة بنيو جيرسي، وقد كان حريصًا على تعليمي بعض اللغة العربية، وماذا عنك أنت؟
-ماذا عني؟!
-أنت لا تبدو لي كعربيًا أو مصريًا، وأنا أعرف ملامح العرب فوالدي مهتم بالأنساب العربية حتى أنه يستطيع معرفة العربي وتحديد من أي البلاد هو فقط بالنظر إليه.
-أنت محق، ملامحي لا تبدو عربية تمامًا ولكنني أنتمي إلى هناك، كما أنك تبدو كواحدًا ولا يبدو أنك تنتمي إلى أي مكان.
بدت كلمات خالد تتصف بالحدة التي لم يلحظها شاهد نظرًا لعدد الكؤوس التي تناولها، ثم استطرد قائلًا:
-على كلٍ عليَّ الذهاب الآن فصديقتي تنتظرني، اعطني نمرة هاتفك فيبدو أنني سأحب قضاء بعض الوقت مع والدك.
أخرج شاهد هاتفه وتبادل أرقام الهواتف مع خالد، ثم تركه خالد متوجه إلى حيث تجلس صديقته، بينمى احتسى شاهد ما تبقى في كأسه من شراب، ثم توجه خارجًا ليجد له توصيلة تقله إلى شقته التي لم تبعد الكثير عن الحانة، ولكن تثاقل قدمه منعه من المشي إليها، وما هي إلا أقل من خمسة دقائق حتى كان مستلقيًا على أريكته أمام التلفاز.
لم تتابع عينيه ما يدور من أحداث على الشاشة التي أمامه، ولم يكن أبدًا من المهتمين بالتلفاز وما يدور به من أخبار الرياضة أو الفن أو الأفلام السخيفة، ولكنه الروتين، فقط تجلس أمام التلفاز وتنظر إليه ثم تمد يدك بجهاز التحكم وتقلب القنوات حتى تستقر على ما تشاهده -ولن يستقر أبدًا- وتشاهده إلى أن تصاب بالملل أو تنام، وكانت الثانية.
فتح "شاهد" عينيه ليرى النجوم تلمع فوق رأسه والقمر داميًا، بينما رائحة عطن تُنفر أنفه، وصوت حزين خائف خافت يردد كلمات لا يفهم معناها وإن كانت ذاكرته التصويرية حفظت الكلمات وقارنتها بما يعرفه من لغات، إنها حتمًا عربية، ولكن لمن هذا الصوت الأنثوي، وما معنى تلك الأغنية، وأين هو؟
"في لَيالٍ كتَمَتْ سرَّ الهَوى
بالدُّجَى لوْلا شُموسُ الغُرَرِ
مالَ نجْمُ الكأسِ فيها وهَوى
مُسْتَقيمَ السّيْرِ سعْدَ الأثَرِ
وطَرٌ ما فيهِ منْ عيْبٍ سَوَى
أنّهُ مرّ كلَمْحِ البصَرِ"
تحسس ما حوله عله يجد ما يتكأ عليه فيقوم من نومته، فإذا يده تطأ شيئًا دافئًا قربه من أنفه لتصدمه الرائحة التي اعتادوا في المشفى، إنها دماء...
"حينَ لذّ الأنْسُ مَع حُلْوِ اللّمَى
هجَمَ الصُّبْحُ هُجومَ الحرَسِ
غارَتِ الشُّهْبُ بِنا أو ربّما
أثّرَتْ فيها عُيونُ النّرْجِسِ"
تخبط يمينًا ويسارًا كمن لم يرى دماءًا من قبل حتى قام على قدميه وبدأ في السير بخطى واسعة، وكلما سبقت إحدى قدميه الأخرى سمع لها صوت اصطدامٍ مع ماء ثخين على الأرض، لم يكن ماء إنه يعرف، ويعرف إنه يركض حاليًا على أرضٍ زلقة ولكنه لا يبالي، سيكون بخير طالما ابتعد من تلك الغيلان والعمالقة المتراقصة والأفاعي الضخمة القصيرة، يا إلهى تلك الدماء لا يمكن أن تكون لشخصٍ واحد، بل عشرات...
"أيُّ شيءٍ لامرِئٍ قدْ خلَصا
فيكونُ الرّوضُ قد مُكِّنَ فيهْ
تنْهَبُ الأزْهارُ فيهِ الفُرَصا
أمِنَتْ منْ مَكْرِهِ ما تتّقيهْ
فإذا الماءُ تَناجَى والحَصَى
وخَلا كُلُّ خَليلٍ بأخيهْ"
بدأت عينه تعتاد الظلام، وبدأت الأشباح تتخذ معالمًا وأشكال، فتحولت الغيلان إلى أكمة تتقدمها بعض الشجيرات وتعتليها شجرتين ضخمتين، والعمالقة المتراقصة إلى عمدان من الخشب تحمل مظلات، والأفاعي الضخمة إلى متكئات تحت المظلات، إنه في حديقة قصر ما، ولكن ما قصة الدماء؟
"تبْصِرُ الورْدَ غَيوراً برِما
يكْتَسي منْ غيْظِهِ ما يكْتَسي
وتَرى الآسَ لَبيباً فهِما
يسْرِقُ السّمْعَ بأذْنَيْ فرَسِ
يا أُهَيْلَ الحيّ منْ وادِي الغضا
وبقلْبي مسْكَنٌ أنْتُمْ بهِ
ضاقَ عْنْ وجْدي بكُمْ رحْبُ الفَضا
لا أبالِي شرْقُهُ منْ غَرْبِهِ
فأعِيدوا عهْدَ أنْسٍ قدْ مضَى
تُعْتِقوا عانِيكُمُ منْ كرْبِهِ"
بدأ الصوت يتلاشى مع تسارع خطواته حتى اختفى تمامًا عندما وصل لأول شجيرة عند الأكمة، ورغم رعب منظرها وما تبعثه في قلب الناظر إليها من رعب إلا أنها بدت له كواحدة من الطمأنينة عندما اختبئ خلفها، بدأ يراقب القصر الذي خَّلفه بينما كان يركض وساحته الدمويه تنعكس عليها أضواء القمر، قصر كبير كل غرفه مظلمة ما عدا غرفة واحدة، وما أثار حيرته حقًا هو أنه سمع الصوت الهامس بالأغنية الغريبة، ولم يسمع كم الضوضاء الذي انتبهت إليه أذنه بعدما التقط أنفاسه.
صوت صراخ الرجال بينما تشق السيوف رقابهم، وعويل النساء المحولات فوق دماء رجالهم، وقهقهات الجنود وهم يمسكون الأطفال من أقدامهم بينما رؤوسهم تتمرغ في الدماء المختلطة بالثرى، ابتلع "شاهد" ريقه بصعوبة بينما تراقب عيناه تلك المجزرة، ويتعجب كيف تمكن من الهرب؟ بل وكيف بحق السماء جاء هنا؟.
-وجدتك أيها المخنث.
تجمدت قطرات العرق على جبين "شاهد" بينما يد تمسك به وتسقطه أرضًا، مهلًا إنه يعرف تلك اللغة، سقط على ظهره بينما اليد الأخرى للشخص القابض على كتفه تهوي على رأسه بمقبض سيف يمسكه بيده الأخرى.
فتح "شاهد" عينيه على اتساعهما ليرى الشاشة المستطيلة التلفاز تعرض هرائها المعتاد، ولكن ما يهم حقًا أنه على أريكته المريحة أمام التلفاز في الولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد في ولاية ماساتشوستس، ولكن لماذا هناك نكهة دماء في فمه؟.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jan 12, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

شاهد حسنWhere stories live. Discover now