هدوء العواصف

6.2K 180 24
                                    


الفصل الأول :

نوفمبر ٢٠٢٢

وإن كثُرت العواصف فلا بد من هدوءٍ يُرممُ مُرَّ ما أصابنا.

في مكان هادئ نسبيا تعيش فيه امرأة تستطيع أن تقلب كيان أي شيء، بإمكانها تحويل السعادة لحزن دائم لا مثيل له، دخلت الغرفة وهي تتحدث بتهَكّم..
ومتى سَتَلِدُ الأميرة؟ لا أعلم إلى متى سأتحمل وجودك اللعين في هذا البيت، ليت زواجك اكتمل لأتخلص منك.
استيقظت الفتاة وقد زفرت بقوة لتحافظ على هدوئها..
_ صباح الخير يا زوجة أبي..
ثم تمتمت بصوت مسموع..
_ رغم أن الصباح الذي يبدأ بكِ لا يزوره الخير مطلقا، ما الأمر الذي ساق بكِ إلى غرفتي؟
رفعت حاجبها لتكمل الحديث على غرار ما سبق..
_ لقد غفوتِ دهرا.
مسحت الفتاة عينيها ثم ارتدت نظارتها ورفعت حاجبيها ليلتصقا ببعض وابتسمت لتجيب ببرود شديد..
_ سريري لم يشتكِ بعد.
اعتلت العصبية وجهها لتضغط على أسنانها قائلة..
_ إن والدك يريد التحدث معكِ، لتنهضي من على البيض قليلا.
_ إن انتهيت من تبليغ رسالتك يمكنكِ الخروج.
نظرت إليها وقد ازدادت عصبيتها وبعد خروجها بكت الفتاة كعادتها وكأن دموعها أصبحت حرة، ولا شيء تفعله في يومها سوى البكاء والنوم، فبسملت وحوقلت ثم قامت لتتوضأ لعَلّها تهدأ، وارتدت ثيابها واتجهت إلى غرفة المعيشة حيث يجلس والدها ألقت عليه تحية الإسلام ثم انحنت لتقبل كفه..
تحدث معها بحنان بالغ وابتسامة لم تغب عن وجهه ثانية...
_ هل أنتِ بخير الآن؟
أجابت بابتسامة مماثلة..
_ لن يزورني إلا الخير دُمت معي يا أبي.
نظر والدها إلى الأرض والخجل يعلوا وجهه، ليس إثر كلامها بل استعدادا لما يود قوله..
_ أحدهم تقدم لخطبتك.
مطّت الفتاة شفتيها مستغربة...
_ ومن ذا الوقح الذي يتقدم لخطبة فتاة لم يمر على طلاقها يومين؟
أعاد الأب نظره إليها مرة ثانية..
ما أريدكِ أن تفهميه أن الحياة لا تقف على أحد يا حفصة.
انفعلت حفصة قليلا ليعتلي صوتها وهو نادرا ما يحدث منذ فترة...
_ الحياة لا تقف على أحد؛ لكنها تقف احتراما لحزننا، تقف لأجلنا لكي ننهض ونسير في دروبها الغامضة ثانية.
نظر إليها والدها؛ فانتبهت لصوتها ثم أردفت بتلعثم..
_ آسفة يا أبي، حسنا.. م.. من الذي طلبني للزواج؟
_ ستعرفين الليلة ولكن..
ثم نهض من مكانه فقامت هي الأخرى احتراما له، ترجل حتى وقف أمامها..
_ كل الفتيات يسعدن فور تقدم رجل لخطبتهن، إلاكِ يا حفصة، لماذا أرى التردد والغضب هو تعبيرك الأول فور سماعكِ ذاك الخبر؟
_ لأنني لم أُخلق من ضِلع جميع الرجال، لا أريد رجلا تسعد درجات السُلّم لأنه يصعد لخطبتي، ولا أريد أن يحتضن خاتمه قلبي قبل بُنصري، لأن كل هذا سيحدث بالفعل إن سعد ضلعي بمجاورة ضلعه؛ حينها ستلتحم ضلوعنا يا أبي...
قاطع حديثها دخول زوجة أبيها وهي تتحدث بحنان يكسوه التمثيل والقسوة..
_ لكننا نطوق لرؤيتك في الأبيض يا حبيبتي.
ابتسم الأب ثم خرج من الغرفة؛ وآمالت حفصة برأسها نحو زوجة أبيها..
_ تجردي من ثوب التمثيل وإلا سأفضح أمرك.
ضحكت الأخرى وأتبعت بثعبانية...
_ الكفن أيضا أبيض اللون يا عزيزتي، لنرى أيّا منهم سترتديه أولا.
نظرت إليها حفصة بازدراء ثم رحلت...
هبطت السلم لتسمع كلمات القيل والقال التي تنهش في لحمها، فواحدة تواسي وأخرى تمصمص شفتيها وتدعوا لها بالإعانة على ما حلّ بها، أعرضت عن الجميع وترجلت لوجهتها.

أن توضع في دائرة لا تُشبهك، أن تُحاط بأناس لا يطلبون منك شيئا سوى أن تكون فاشلا و في حالة حزن دائما، هل هناك شيء آخر قد يصيبك بالمرض؟

نوفمبر ٢٠٢١

_ أمي أين أنتِ.
_ أنا هنا حبيبتي، ولكن اخفضِ صوتكِ قليلا؛ فوالدك لم يستيقظ بعد.
نظرت إليها بمرح ورسمت على وجهها ابتسامة شيطانية لا توحي بحسن نية..
_ سأوقظه.
ردت عليها أمها بتحذير وهي توقن أن رأس ابنتها يابس ولن تستجيب..
_ لا يا حفصة، الفطار لم يجهز بعد.
_ هدئي من روعك قليلا يا أمي، سأقرأ عليه سورة يوسف ويردني في أخطائي..
ثم تركتها وملأت المنزل بصوتها وهي تنادي على أبيها..
_ أبييييييييي، اترك الفراش قليلا، أبيييييي
وقبل أن تصل إلى باب غرفته كان أبوها قد فتح الباب فأمسكها من ياقة ثوبها بمرح.
_ هل أخبرتك أمك أنني نائم في المحيط؟ لمَا كل هذا الإزعاج؟
عقدت حاجبيها كالأطفال وربّعت يديها..
_ أنسيت قواعد البيت؟ القاعدة الأولى منذ قدومي على هذه الدنيا غير مسموح لأحد بالنوم دُمت أنا مستيقظة، إذا استيقظت حفصة يجب أن يستيقظ الجميع وافعلوا ما شئتم دُمت نائمة.
_ اعتقدت أنكِ عندما تكبرين ستنزع تلك الصفة.
_ إن نٌزع حبي من قلبك ستنزع تلك الصفة.
نظر إليها بحنان وحب بالغين ثم أتبع ليوضح لها بعض أمور الدنيا..
_ قد تُنزع الصفات فنرى أشخاص قد تغير كل شيء فيهم؛ إلا الحب لا يُنزع ولا يقل حتى أنه لا يموت بموت صاحبه، وطالما أن قلبي لم يتوقف عن ضخ الدماء لن يقل حبي إليك عزيزتي.
قاطع حديثهم صوت الأم ...
_ هل يمكننا تناول الطعام إن انتهيتم من الغزل؟
تحدثت حفصة وهي متجهة إلى أمها لتحتضنها من ظهرها.
_ يبدوا أن أحدهم يغار يا أبي.
وجهت الأم إليها ضربة صغيرة على رأسها..
_ ممن أغار؟ لا لا أنا لا أغار، لتناول الطعام ونترك الحديث جانبا.
نظرت إليها حفصة وهي تضحك..
_ أمي تغار على أبي، ما زال الحب قائما بينهما يا أيها الناس.
ردت عليها الأم والخجل اعتلى وجهها...
_ كفي عن الحمق وتناولي وجبتك.
بعد الإنتهاء من تناول وجبة الإفطار أخبرت أمها بأن زوجها سيأتي الليلة ليُحدد موعد الزفاف ثم ذهبت إلى المسجد لحفظ القرآن، مرت الدقائق وانتهت المقرئة الجماعية وجلست تُراجع ما حفظت حتى أتى دورها، جلست أمام المُعلمة وتلت ما تيسر من سورة يوسف؛ ولكن قاطع تلاوتها صوت رنين الهاتف فطلبت من مُعلمتها أن تُجيب نظرا بأن المتصل والدها، أنهت المكالمة وتعابير الصدمة تعتلي ملامحها فقاطع شرودها صوت المعلمة...
_ حفصة سأراجع لكِ الآية السابقة لتُكملي    ﴿قالوا تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يوسُفَ حَتّى تَكونَ حَرَضًا أَو تَكونَ مِنَ الهالِكينَ﴾.
هربت الدموية من وجه حفصة واجتمعت الدموع في عينيها ثم قالت..
_ ﴿قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ وَأَعلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾
وظلت تكررها كثيرا قبل أن تهوي مغشي عليها.

_راتيل سعد.

هدوء العواصفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن