مرت الدقائق وانتهت المقرئة الجماعية وجلست تُراجع ما حفظت حتى أتى دورها، جلست أمام المُعلمة وتلت ما تيسر من سورة يوسف؛ ولكن قاطع تلاوتها صوت رنين الهاتف فطلبت من مُعلمتها أن تُجيب نظرا بأن المتصل والدها، أنهت المكالمة وتعابير الصدمة تعتلي ملامحها فقاطع شرودها صوت المعلمة...
_ حفصة سأراجع لكِ الآية السابقة لتُكملي ﴿قالوا تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يوسُفَ حَتّى تَكونَ حَرَضًا أَو تَكونَ مِنَ الهالِكينَ﴾.
هربت الدموية من وجه حفصة واجتمعت الدموع في عينيها ثم قالت..
_ ﴿قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ وَأَعلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾
وظلت تكررها كثيرا قبل أن تهوي مغشي عليها، وبعدما استعادت رشدها هرولت إلى المستشفى وبحثت كالمجنونة على رقم الغرفة بعدما سألت الإستقبال، فوجدت أباها واقفا في طرقة بين الغرف، وقفت أمامه وأمسكت بكفيه وكأنها ترجوه أن يصَدّق على كلامها...
_ أمي بخير أليس كذلك يا أبي؟
ضمها والدها بين ضلوعه، ظلت حفصة تبكي وفي لحظة سقط نظرها على شيء جعل الدماء تفور في رأسها..
_ ما الذي أتى بهذه المرأة إلى هنا؟ اغربي عن وجهي وإلا ارتكبت فيكِ جريمة قتل.
أمسكها والدها وأحكم قبضته ....
_ حبيبتي، لولا زوجة عمك لما علمنا بموت أمك.
_ أمي لم تمت، أمي بخير يا أبي هي فقط تتدلل لترى كم نحمل لها من الحب...
سكتت وكأن عقلها بدأ يعمل...
_ أنتِ من قتلتيها أليس كذلك؟ أنت تكرهين أمي منذ زمن وتمنيت أكثر من مرة أن ترحل عن الدنيا، بل وكنت تزيدين من الدعاء عليها، والجميع يعلم أنكِ ممنوعة من دخول منزلنا؛ فكيف علمتِ أولا بموت أمي؟
بكت زوجة عمها وحاولت ألا تتلعثم حتى لا تؤكد كلامها...
_ من الواضح أن تأثير الصدمة عليكِ أفقدك عقلك، أنا لم أفعل شيئا، وهل هذه شكرا التي يجب أن توجهيها إليّ؟
انفجرت حفصة في وجهها...
_ ولِما أقول لكِ شكرا؟ هل لأنكِ نجحتي أخيرا في مخططاتك وتخلصتي من أمي وظل الطريق للوصول إلى أبي فارغا؟
تدخل والدها ليسيطر على الموقف..
_ حفصة يجب أن تهدأي وتراجعي كلامك؛ لأنه من الواضح أن تأثير الصدمة عليكِ كان كبيرا.
_ سأذهب للطبيب لأسأله عن شيء.
ترجلت حفصة إلى غرفة الطبيب والدموع تسيل من عينيها كالشلال، كانت دقات قلبها تتسارع وكأنه مشترك في مسابقة ركض، وأخيرا وصلت إلى وجهتها..
_ السلام عليكم، أمي بخير أليس ذلك؟ أخبرني أنها بخير أرجوك.
وقف الطبيب والصدمة تعتلي وجهه وبدأت علامات الاستفهام في الظهور..
_ اهدأي، إن شاء الله ستكون بخير؛ ولكن من تكون أمكِ؟
ردت عليه حفصة وقد زادت دموعها وكانت تشهق بين الكلمة والأخرى ..
_ السيدة فاطمة التي قلت أنها ماتت بذبحة صدرية.
فُتح الباب فجأة ونظر الطبيب إلى الشخص الذي يمسك قبضة الباب وبدأ يتلعثم..
_ هي.. نعم.. السيدة فاطم..
_ لماذا تلعثمت هكذا؟
ثم نظرت خلفها فوجدت زوجة عمها تقف على الباب والشر يتطاير من عينيها وتبتسم بسخرية..
_ حسنا، فهمت، خُنت مهنتك واستلمت بعض الرشوة، والآن تأكدت أنكِ من قتلها.
هرولت حفصة إلى أبيها، وقلق الطبيب ولكن زوجة عمها طمأنته أنها لن تفعل شيء ولا داعي للقلق، وقفت حفصة أمام أبيها وصدرها يصعد وينزل بسرعة شديدة إثر الركض..
_ أبي، أمي لم تمت بذبحة صدرية، أقسم لكَ بذلك، أرجوك يجب أن نطلب تشريح جثتها، أرجوك يا أبي.
احتضن والدها وجهها بكفيه ليلتقط الدموع بإبهامه..
_ حبيبتي، يجب أن نؤمن بقضاء الله وقدره فالموت واحد.
_ ولكن اختلفت الأسباب يا أبي.
_ ولمَا النهش في عظامها؟ والأهم أنه تم تغسيل أمك، لنؤمن بقضائه؛ لأنه لا فائدة من فعل ما تطلبيه، لن يُعيدها إلى الحياة.
_ ولكن يا أبي...
_ لنوحد الله ونؤمن بقدره؛ لأنه ليس لدينا سواه.
ارتمت بين ذراعيه وظلت تبكي، وظل والدها صامدا علّه يهون عليها وفجأة انفجرت تلك القوى دموعا في عينيه، وانهدم الصمود المتوغل بداخله وبكى كالأطفال، نظرت إليه حفصة ونشّفت الدموع من على وجنتيه..
_ نحن لله وإليه راجعون يا أبي.
قاطعهم صوت الممرضة وهي تخبرهم بأنه بإمكانهم إلقاء النظرة الأخيرة على السيدة فاطمة، دخلوا إليها وجلس كل منهما على طرف من السرير..
أمسك الزوج وجهها وبكى..
_ عُودي وسأخبرك بأشياء تجعلكِ سعيدة، أعدُكِ بذلك، سأخبرك عن مدى حبي لكِ وامتناني الشديد لوجودكِ دائما دون كلل أو ملل، سأخبركِ أن دفء العالم كله يكمن في ابتسامتك.
أمسكت حفصة كف أمها وأخفضت رأسها لتلامسه..
_ لقد أفقنا من شرودنا يا أمي، استوعبنا أن الحياة تكمن في وجودك، ولكن جاء الاستيعاب متأخرا، نحن نحبكِ يا أمي.
ظلا يبكيان ويقَبّلان جبينها مرة وكفها في مرات أخرى، دخلت الممرضة وأخبرتهم أنه حان وقت الصلاة عليها والدفنة، كان الزوج وصل إلى أعلى درجات الحزن، مر الوقت وتمت مراسم الدفنة وأخذ العزاء.
إن اجتمعت علينا هموم العالم نجد دائما الأم هي الحضن الدافئ الذي يُصبّرك على مرارة الدنيا، تُنصت إليك كلل أو ملل، فماذا لو أن العالم حرَمك منها؟
وفي عام حزنهم شعروا وكأن الأعوام كلها مرت فيه، أصبحت الحياة بلا معنى والقلب دون نبض، أصبح كل شيء باهتا، لم يحدث شيء يستحق ذكره سوا الكثير من الحزن ولا بأس ببكاء إن زار وأقام.
وفي يوم رن جرس الباب فقامت حفصة بثقل شديد لتفتح..
_ السلام عليكم، اشتقت إليك كثيرا يا حفصة.
تجمدت ملامح حفصة وتحدثت بصوت خافت ولكن يكسوه الغصب..
_ ما الذي أتى بك إلى هنا؟
_ رد السلام فرض عين على المنفرد يا حفصة.
لم تتغير ملامحها ولا نبرة صوتها بقيا كما هما..
_ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ما الذي أتى بك إلى هنا؟
_ ألن تقولي لي تفضل؟
_ لا نريد فضلك ولا أن نتفضل عليكَ.
_ حفصة، أنا زوجك إن كنت نسيتِ ذلك.
_ حقا؟ يا لها من معلومة كنت جاهلة بها.
_ هل سنتحدث كثيرا على الباب؟
قاطع حديثهم صوت والدها وهو يقف في منتصف البيت..
_ من على الباب بُنيتي؟
قام زوجها بفتح الباب حتى يراه والدها..
_ هذا أنا عمي خالد.
_ تفضل يا يونس، لماذا تقف على الباب؟
_ ولماذا يدخل يا أبي؟
_ حفصة، هو في بيتنا، يجب أن يُعامل أفضل معاملة، ولا تنسي أنه زوجك.
_ هو من نسي ذلك أولا.
_ ادخل يا يونس، وأنتِ يا حفصة حضري بعض الطعام.
نظرت إلى يونس بغضب ثم رحلت، ورحّب السيد خالد بزوج ابنته وراح يسأله عن حاله وأحواله وكيف كانت الدنيا معه في الآونة الأخيرة، وراح يعتذر على تقصيرة معه وهنا جاءت حفصة وتدخلت في الحديث..
_ لماذا تعتذر يا أبي؟ ولمن؟
رد عليها والدها بابتسامة..
_ لزوجك يونس.
_ أرجوك يا أبي، لا تكن بهذه الطيبة، وأنت قل لماذا جئت إلى هنا وارحل.
_ جئت لنحدد موعد الزفاف.
أصابت حفصة هستيرية ضحك لدرجة أن الدموع سالت من عينيها من شدة الضحك استهزاء بكلامه..
_ أتعلم شيء؟ اليوم العاشر من نوفمبر وهو ذكرى وفاة أمي، وهو ذلك اليوم الذي كنت ستحدد فيه موعد الزفاف وعندما علمت بموتها قررت السفر وتأجيل كل شيء، أذكر أنك لم تقف معنا ولا ألزمت نفسك بالتهوين عليّ، فقدت أمي وماذا عساك أن تفعل؟ بدلا من مواساتي قررت الرحيل لِتركي أهدأ، وجئت بعد عام كامل لنحدد موعد الزفاف، كان معك حق أن تتركني أهدأ؛ فلقد هدأت بالفعل ورتبت اوليات حياتي والغريب أنك لم تشغل المرتبة الأخيرة حتى في حياتي.
كانا يسمعانها بإنصات ومن ثَم أمرها والدها بأن تجلس جواره..
ابتلع يونس لعابه بصعوبة بالغة ثم قال..
_ أنا لن أرد على تلك الاتهامات لأن والدك يجلس.
_ جُزيت خيرا يا بني.
_ حسنا يا عمي، هل سنحدد موعد الزفاف؟
_ بالطبع.
تحدثت حفصة بصدمة..
_ ولكن يا أبي...
أمسك والدها كفها وشرع في تكميل حديثه..
_ أخبرني يا يونس هل الأسبوع يكفي لأن تكون جاهزا؟
_ بالطبع يا عمي.
_ حسنا، الأسبوع القادم إن لم تكن ورقة طلاق حفصة بين يدي سأضطر للجوء إلى المحاكم، انتظرت قدومك عام بأكمله.
_ تمازحني أليس كذلك؟
_ أنا في عمر والدك ولن أفعل ذلك في تلك المواضيع، ولا تنسى أنه لا يوجد في الطلاق مزاح.
_ هل يمكنني أن أعرف السبب؟
_ من حقي كأب أن أختار الزوج المناسب لابنتي، التي أطمئن عليها معه إن وافتني المنية، أريد لها شخصا يقف بجانبها إن بكت لأن إبهامها جُرح؛ لكنك رحلت حين وفاة أمها كيف آمنك عليها؟ معك أسبوع كامل.
وقف يونس وهمّ بالرحيل فوقف الأب هو الآخر..
_ لم تأكل معنا.
_ ولا داعي للجلوس، السلام عليكم.
ردا عليه السلام وبعد رحيله جلست حفصة جوار أبيها..
_ هل أنتِ حزينة على ما فعلته؟
_ لا يا أبي، لقد فعلت الصواب، شخص لم يقف بجانبي في أشد أوقات حزني كيف أصنع معه السعادة.
_ سيعوضك الله، أنا واثق في ذلك..
ابتسمت حفصة وسكت والدها دقائق ثم تحدث بتردد..
_ حفصة، فعلت لكِ ما أردتيه هل يمكن أن تفعلي لي شيئا أريده؟
_ بالطبع يا أبي.
_ سأعقد قراني على زوجة عمك الليلة.
أنت تقرأ
هدوء العواصف
Fantasíaإن كثرت العواصف لا بد من هدوء يُرمم مرّ ما أصابنا. هل ساعدك ساكن كوكب آخر من قبل في تخطي ابتلائك؟ هل فقدت والديك لنفس السبب؟ أم واجهت كلا الأمرين كحفصة؟