Part 1

132 16 17
                                    

                     
كانت السماء محجوبة بسحب رمادية، كشِباك العنكبوت، حينما جلس "نادر" وحيدًا في أحدى الأماكن التي غالبًا كانت مخبئه من أي شيء يرهق قلبه, جلس قرابة البحر يتأمله في صمتٍ تام, جلس على تلك الصخره التي تذوب من فرط الهموم العالقةِ به, كان يتأمل أحدى الأحجار التي بين يديه ويتمتم لها قبل أن يقذفها بقوه داخل البحر, كأنه يخبرها بأوجاعه وضجيج قلبه الذي لم يسمعه أحدٍ سواه! وبينما هو جالس تذكر صديقه "أنس" الذي قد تخرج من الجامعة حديثًا وقد فتح عيادة لعلاج الأمراض النفسية, حينها ابتسم وتذكر أيامه معه عندما كان يحادثه عن أوجاعه, ثم نهض "نادر"  فجأة وقرر الذهاب إلى صديقه "أنس" حيث مكانه الآن في العيادة وتوجه نحوها, وعندما وصل إلى العيادة ألتقى بسكرتيره الخاص الذي كان يرتدي مزئر أبيض اللون وأخبره أنه صديق "أنس" ويريد مقابلته, وبعد أخباره توجه ذلك الطبيب ودلف إلى الغرفة التي بها صديقه وبعد دقيقه عاد له وأخبره أن "أنس" بإنتظاره, ثم شكره بإبتسامه وطرق الباب ثلاث طرقات ثم دلف "نادر" عبر الباب وألتقى بصديقه أخيرًا صاحب الخمسة وعشرون عامًا, أبيض البشرة, قصير القامة, ثم أقترب منه وأحتضنه فجأة وقال:
- أشتقت إليكَ يا صديقي.
ابتسم له "أنس" قائلًا:
-- ما زلت ماهر في حديثك يا "نادر" أخبرني كيف حالك؟
نظر"نادر" لصديقه "أنس" نظرة ضيق وتنفس بعمق وهو مغمض العينين وأطلق بعدها زفيرًا يوحي بالأسف, ثم قال:
- لستُ بخير يا صديقي! لستُ بخير.
-- لماذا كل هذا الحزن يا "نادر" ألا ترى انك لا تستحق ذلك!
تنفس "نادر" الصعداء وقال:
- أتعلم بماذا أشعر دائمًا؟
-- بماذا؟
- كَأنَّني صُنِعتُ مِن قَلقٍ، ظَللتَّ طوال عُمري أبحث عَن طمأنينة فلم أجدها حتى في أحضان من أحب.
حينئذ أطبق الصمت لوهله عليهم, ونظر كلاهما من خلال النافذة المطلة على البحر وأمواجه الغاضبه قبل أن يقرر "أنس" أن يكون الحاكم في تلك اللحظة، أن يحل محل الصمت قليلًا, فقال:
-- عندي فكرة جيدة لك إذا كنت ما زلت لم تستطع البوح لأحدهم وتفضل الكتمان كما كنت في السابق.
- وما هي؟
-- أن تأخد ورقة وقلم وتدون ما تشعر به وسوف اقرأه لاحقًا.
رسم "نادر" ابتسامه واهنه على شفتيه قبل أن يقول:
- حسنًا
ثم أعطاه "أنس" ورقة وقلم وتركه وحيدًا في الغرفة ليدونَ ما يشعر به أو ما يريد أن يعبر عنه, ثم جلس "نادر" على الكرسي المتحرك وها هو تلك المره وحيدًا وبعيدًا عن الجميع, لأنه أراد تلك الفرصة منذ فترة, أراد الإختلاء بنفسه قليلًا حتى يمكنه تهدئة ضجيج أفكاره والذكريات التي تلاحقه هنا وهناك, وفض الصراع القائم بين قلبه وعقله في تلك المسألة لعله يستطيع أن يجاوب على كلاهما في آن واحد, جلس وبيديه تلك المذكرة وبدأ بكتابة العنوان في أول السطر ( للحب أوجه عديدة) حينئذ هبت رياح قويه من داخل الغرفة المطلة على البحر كأنها تعانقه, وبدأ فك أسنانه يرتطم ببعضها البعض, وكأنها بيانو يُعَزف عليها أوجاعه فتخرج من بين شفتيه معزوفة بيتهوفن الشهيرة, ثم بدأ بالكتابة في أول السطر:
- للحديث عن الحب هناك أشياء كثيرة تعبر عن الحب بصيغة مباشرة أو بدون, فهناك إشارات, نظرات, وأيضًا أفعال لا يمكن بمفردها أن تكفي إطلاقًا, الحب هو؛ حينما تنظر إلى من تحب وإلى مقلتيها الزرقاء التي تشبه السماء الصافية فيقطر منك الحب دون أن تدري .. أن تسبح بنظرك بعيدًا في أعماقها وتنسى أين كنت منذ قليل, ثم تترك نفسك لتسقط بداخلها حتى توقظك فجأة بوخزة بسيطة في جانبك بواسطة يدها حتى تعود لعالمها, ويمكنك وقتذاك أن تغرق في شيء آخر, كَـ شعرها الحالك الذي يشبه لون قهوتي المفضلة, أو ثغرها حينما ينطق بإسمي أشعر بأن أسمي إزداد جمالًا وأصبح وجهي متوهجًا ينير عتمة طريقي .. وحينما اتأمل كفها الصغير لا أدري بنفسي إلا وأنا أقول:
- كيف يمكن لكف صغير مثل هذا أن يفعل بي هكذا, كيف يمكن أن يجعلني مثل الطفل الصغير أهرول إليه سريعًا حينما يحدث لي مكروه وأرتمي بيه أحضانه, ذاك الكف الذي أتشبث به أمام بشاعة العالم وقسوته .. وذاك الحضن الذي أصبح لي مأوى ومهرب ومأمن, لا أدري كيف أفسر لكم الأمر لكنه صعب أن يكتب مهما حاولت, لأنه شعور خلقه الله بداخلنا لنشعر به وليس لنكتب عنه, مهما حاولنا جاهدين أن نكتب عنه لن نستطيع .. لذلك علينا أن نسبح في أعماقنا لندرك ونشعر به بداخلنا, بداخلنا فقط! لأن الحب هو حياة وموت في آن واحد, الحب تضحية, وفاء, إخلاص.
الحب هو: أن تكتفي بمن تحب مهما بلغ الكثير من حولك يبقى وحده هو الذي تراه من بينهم.
الحب هو: حينما يمرض من تحب أن تظل بجانبه, وأن تخبره أنه سيكون بخير الحال, وتجعله يدرك أنه وفي أسوء حالاته يشبه القمر كثيرًا برغم إنتهاك المرض جسده وجعله باهت بإمكانك إزهاره مجددًا بكلمة رقيقة, بوقوفك بجانبه.
الحب هو: مثلما اختبأت السيدة عائشة رضي الله عنها من أبيها خلف الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحب هو: حينما أكون بجانبك ونفعل الأشياء التي نحبها سويًا أشعر بشيء مختلف .. أشعر كأنني في الجنة.
الحب هو: أن تبقى بجانبي حتى يجعد شعري والشيب يأكل فيه وأصبح باهتًا وقد غطت التجاعيد وجهي وأتكيء على عكازي, أن تكون أنت ذلك العكاز الذي لن يأكله الدود مهما مر الزمان حتى ترافق روحي الملأ الأغلى, وحينذاك سأنظر إليكَ وأكون ممتن أنني أخترت الشخص الصحيح الذي وهبه الله لي.
الحب هو: أن أتمنى أمنية واحدة فقط, هي حينما أكون على مشارف الموت وأن أكون بين ذراعيكِ, أن تكون أول وأخر من تراه عيني قبل أن أموت.
الحب هو: أن تكون لها رجلًا فتكن لكَ امرأة.
الحب هو: أن تكون لها ملكًا تكن لكَ أميرة.
الحب هو: أن تصبح عاشقًا فتصير هي متيمة بكَ.
الحب هو: مشاعر وأحاسيس وأشياء تلمس القلب ولا يمكنك كتابتها أو تلخيصها في عقود من الزمن لأنها أكبر بكثير .. الحقيقة أن الحب لغز يجب عليكَ أكتشافه.
مثلما قال ديستوفيسكي: أنه الجحيم, لكنني أدركت عكس ذلك, فالحب يروي ظمأ العاشق, الحب هو تضحية بكل شيء من أجل شيء وحيد, الحب مثل الدين لا إكراه فيه, الحب يجعلنا أقوياء ويجعلنا أيضًا ضعفاء, أدركت أن للحب وجهًا آخر غير الذي ندركه جميعًا من ألم وخسارة وفقد وخذلان وأشتياق, له وجه آخر مثلنا تمامًا للتنقل بين وجه وآخر للتكيف مع العالم الذي أصبح باهتًا نوعًا ما, لذلك لا يمكن أن نلوم الحب لأننا من يمكننا التحكم بمشاعرنا بحذر أو أن نطلقها مع من نثق أن قلبه أكتفى بنا وليس نحن من أكتفينا به! لأن الفرق شاسع, لأنه من المؤسف أن أخبركَ يا صديقي في نهاية رسالتي قبل أن يجف حبر القلم أن كلما حاولت أن تحب شيء يذهب بلا رجعة, لذلك أجعل حُبكَ لذاك الشخص الذي أكتفى بكَ وترك العالم من أجلك, وحده من تستطع أن تسلم له مشاعرك وأنتَ مطمئن, لأنه بالحب ستعجلك تعشقها حتى وإن كانت نساء الأرض كُلها حولك فوحدها من تملك قلبكَ يا عزيزي, صحيح الحب داء وليس دواء كما نظن, لكنه قادر على صنع المعجزات .. لذلك كونه ذاك الدواء الذي يحيا وليس الداء الذي يميت.
ثم ترك القلم على الورقة من بين يديه بعد أن أنتهى من كتابته, وظل ينظر إلى البحر من خلال نافذة الزجاج وهو يتأمله بصمتٍ تام, يعلم الله كم مدتها .. ثم أخرج زفيرًا عاليًا وأغمض عيناه وكأنه يتذكر شيئًا ما.

للحُب أوجه عديدةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن