الفصل الثالث

1.4K 221 120
                                    

أحسّ بحركة خلف الباب فبدأ نبضه بالتّسارع و ملامحه بالتّأهّب متخيّلا آلاف السّيناريوهات التّي تصوّر تلك اللّحظة. لكنّه وجد نفسه أمام رجل يراه للمرّة الأولى. تبعثرت الكلمات في جعبته و جمّده الصّمت. حين رفع الرّجل أحد حاجبيه منتظرا منه أن يتحدّث قال:

- هل أمّي بالدّاخل؟

- أمّك؟ ربّما أخطأت العنوان، لا أحد غير زوجتي و أولادي هنا.

فجأة، جفّ ريقه حين حاول أن يبتلعه، اتّسعت عيناه بصدمة، استشعر وخزة انشقّ قلبه إثرها شقّين كأنّما قد طعنته سكّين خفيّة. نظر حوله بضياع لكن كلّ ما وقع بصره عليه بدا مألوفا، بعد سكوت ثقيل سبّبه اضطرابه نظر إلى الرّجل بشرود و أردف:

- أظنّك على حق. آسف على الإزعاج.

غادر يمشي كطير فقد جناحيه حديثا، وضع يده على قلبه محاولا أن يخمد ذاك الألم، حتّى الفراق لم يجعله يشعر بالتّيه الذّي شعر به وقتها، لأوّل مرّة يحسّ بالغربة في ذاك المكان. احتاج أن يجد إجابة للسّؤال الذّي اهتاج بعقله. طرق أوّل باب رآه فهو يعرف كل السّكان هنا.

انتظر إلى أن فتحت له تلك السّيّدة الخمسينيّة الهزيلة. ما إن رأته حتى شهقت و هي تضرب على صدرها غير مصدّقة. بعد أن تجاوزت المفاجأة التي لم تتوقّعها اندفعت نحوه تتحسّس جسده و وجهه كأنما تتثبّت من أنّه حقيقي. ابتعدت عنه و قد شحب وجهها و ارتجفت أوصالها ثم همهمت:

- لم نعتقد أنّنا قد نراك ثانية، ظننّا أنّك... لا عليك، لا تبقى عندك، هيا أدخل.

- أين أمّي؟

قالها من دون أن يرفّ له جفن منذ رآها، كطفل صغير خائف و متوتّر. انتظر أن تقول أيّ شيء، أنّها رحلت إلى الرّيف أو نقلوها إلى دار المسنّين، لكنّها أخفضت رأسها و تنهّدت من دون أن تنبس بحرف.

كان ذاك الصّمت الإجابة الوحيدة التّي لم يتمنّى سماعها، ابتسم بانكسار و هو يحرّك رأسه يمينا و يسارا متراجعا إلى الخلف مقطّبا جبينه و مجعّدا أنفه بألم. هذه المرّة بات يشعر بالنّار انتشرت في جوفه مشوّهة كل ذكرى جميلة خلفها. رفع سبّابته ناحيتها و قال صارخا و هو يغرس أصابع يده الأخرى بصدره:

- أنت بالتّأكيد لا تقصدين هذا.. لا تعنين أنّها توفّيت.. لا أنت حزينة لأنّها غاضبة منّي و لن تسامحني أو لأنّها لن تتقبّل خبر أنّني حي أرزق إلى الآن لكنّك بالتّأكيد لا تعنين أنّها غادرت هذه الحياة.

لم تستطع أن تواجهه بعينيها، تجمّدت بمكانها كالصّنم العاجز و قد انفطرت نفسها، أجابته بغصّة و أسف:

- لم تتحمّل ألم فقدانك، رحلت عنّا لكي تلقاك!

لم يستطع أن يقاوم، سقط على ركبتيه بقوّة كأنّما قد أصابه الشّلل من دون أن يكفّ عن الحملقة فيها لاهثا. تأوّه كمن تكاد روحه أن تترك جسده ثمّ سجد على الأرض. بدأ ينبش التّراب بيديه و يتلوّى مسلّطا الضّغط على أسنانه، ضرب الأرض بقبضته ثلاثة مرّات ثمّ صاح صياحا زعزع الموت من سباته. رفع رأسه قليلا و لطخه على الأرض بقوة، صار يكرّر الحركة ذاتها مرارا صارخا كالمجنون.

لم يعد يشعر؛ لم ينتبه للحشد الذّي اجتمع حوله و لا للمرأة التّي جثت تحاول منعه متضرّعة متوسّلة و هي تعانقه من الخلف و تبكي، لم ينتبه حتى للرّجال الذّين حاولوا أن يرفعوه في حين كان يتخبّط مصارعا بلا إدراك، و لا للدّماء التّي سالت على وجهه المهشّم، كلّ ما كان واثقا به و مؤمنا أنّه الحقيقة الوحيدة... الوجع.

************

لا يعلم كيف مضت تلك اللّيلة الثّقيلة كالموت، أو ما أبقت الحرائق من حياة في قلبه. استيقظ بجهد محاولا أن يحمل جسده، سار إلى الحمّام ليغسل وجهه مشتهيا أن يمحو الماء آخر أثر لملامحه و هويّته و ذاكرته.

نظر إلى نفسه في المرآة، خاصّة إلى النّدوب الكثيرة التّي امتدّت من جبينه متفرّعة إلى بعض الأجزاء من خدّيه و تمنّى لو أنّها لا تزول لتبقى كالوشم الذّي يذكّره بأكبر ذنب اقترفه. تنهّد مأجّجا اللّهب في صدره أكثر و غادر يائسا.

لمحته الجارة التّي استقبلته عندها يسرع جهة الباب فنادته ليتناول فطوره لكنّه لم يجب، طأطأت رأسها بحزن و هي تحرّك الملعقة داخل فنجانها مفكّرة في ما ستؤول إليه الأمور معه. أمّا هو فذهب إلى حيث يمكنه أن يتناسى و لو للحظة تلك الكوابيس المتتابعة بأيّامه.

************

شعر بالسّكينة تشعّ كالشّمعة الخافتة في داخله حين لامست أصابع قدميه سطح الصّخور الأملس، بضع خطوات و جلس مأرجحا ساقيه داخل مياه ذاك البحر، أحسّ بعدها بالدّم المتصاعد إلى قلبه أقلّ حرارة من ذي قبل.

جعل يمسح بيديه على الصّخور المصقولة حوله، و يتجرّع من ذاك الهواء الرّطب و يطرحه بحركات موزونة. أنصت إلى تغريد النّوارس، أصواتهم بعد تلك الحادثة أصبحت إشارة للحياة في قاموسه الخاص. أطلق بصره جهة المحيط اللاّمحدود، و تمنّى...

تمنّى لو كان نورسا يرقص في الفضاء، لا همّ له أكثر من جوع يسدّه بالانطلاق جهة الماء المالح و القبض على السّمك الطّري، أو كان موجة تتشكّل من أعماق البحر لتتكسّر على الرّمل الفضيّ و تنسحب لولادة أخرى.

ركّز بصره على البريق الصّارخ لانعكاس شمس الصّباح على صفحة الماء، و رحل بذهنه بعيدا، إلى زمن ولّى، شيّد ملامح هذا القدر...

_________________________________________

نهاية الفصل الثالث ✋

توقعاتكم للفصل القادم ؟

المهاجرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن