عاد بذاكرته بعيدا، إلى تفاصيل لم يظن يوما أنها قد تقلب موازين دنياه إلى الأبد.
بدأت قصته ذات يوم مكرر.
قبل سنتين، عاد من السوق بعد أن انتهى من بيع الفطائر التي تعدها أمه كل صباح، إذ لم تكن شهاداته العليا تكفي كي يحصل على وظيفة في وطن يدرس فيه الأفراد ليتخرجوا عاطلين عن العمل.
بعد عناء يوم كامل اعتاد ارتياد المقهى الشعبي مع رفاقه، أثناء حديثهم باح أحدهم بأن رحلة غير شرعية تنظم إلى إيطاليا.
أراضي إيطاليا باتت منذ سنين الحلم الموحد لكل شباب هذا الوطن، حين تنقبض الحياة في وجوههم و تنغلق السبل، يهرعون إلى الهجرة نحو أوروبا، متوهمين أن أبواب الجنة تفتح هناك، و أن الأقدار ستتغير بين شوارع روما.
يحيى كان شابا يافعا و طموحا، صدق أن إيطاليا -جنة السراب- ستكون نقطة تحول حاسمة تنقذه من براثن الفقر الشره. تناسى توصيات والده من أن الوطن لا يرحم رجلا تنكر له. بعد اغتياله آمن أن الوطن لا يرحم أحدا من دون أن يخطر له أن الموت بشرف أكرم من حياة بذنب لا يضمحل.
في تلك الليلة، جمع داخل حقيبة صغيرة بعض الأغراض و المؤونة، أخذ مدخرات والدته التي جمعتها على مدى سنوات بنية اللجوء إليها خلال الأيام السوداء، مبررا لنفسه أنه حين يصل إلى الضفة المقابلة سيجني أكثر منها، و غادر من دون أن يودعها.
عند منتصف الليل و النصف، بلغ الميناء الذي سينطلق منه مع ثلة من أعز رفاقه. قدموا المال المطلوب للمنظم و امتطوا المركب الصغير منتظرين أن يكتمل عددهم و تحين اللحظة المناسبة للانطلاق.
عند أول ساعات الفجر باشروا رحلتهم و قد صار عددهم قرابة المائة و الخمسين نفرا، استقروا بعضهم على سطحه متفرقين على جانبيه و منبطحين كي لا يثيروا ريبة خفر السواحل، و بعضهم لجأ إلى الخزان بالأسفل فارا من منظر المحيط المرعب. يحيى كان بالأعلى بدخن سيجارته بقلق و يغني رفقة من انطلقوا بالشدو مستبشرين بالحياة الجميلة في إيطاليا.
مرت الساعات طويلة، و أصاب الإنهاك الأغلبية؛ بعضهم كان يتقيأ من وقت لآخر و قد أصابه دوار البحر، و بعضهم انتابه الملل و الخوف من أي مفاجأة تنتظره. أما يحيى فقد اجتمع مع أصدقائه يؤسس معهم أحلاما عن الحياة الجديدة البعيدة عن الفقر و المعاناة، شاردا بين اللحظة و الأخرى مفكرا في موقف أمه منه حين يصلها خبر رحيله، مواسيا نفسه بقرار تعويضها عن كل هذا قريبا.
حين بدأ الليل بإسدال سيتاره معلنا بداية حفلة القمر و نجومه، اندفعت الغيوم لتتلبد في قلب السماء معلنة عن عاصفة قريبة. ارتسم القلق على وجوه المهاجرين و تبادلوا نظرات شاحبة.
بلع ريقه بصعوبة و هو ينقل بصره بين السماء و البحر و وجوه رفاقه. انتابه خوف غريب من ملاقاة حتفه، إذ أنه قبل هذه اللحظة لم يفكر بمصير أمه التي تركها وحيدة لا معيل لها، آخذا آخر فلس احتفظت به. اشتد نبضه و ثقل تنفسه بعد أن اكتشف حجم أنانيته، فلا شيء يعري ذواتنا عن غرورها أكثر من موت قريب.
أنت تقرأ
المهاجر
Krótkie Opowiadaniaحين نتنكر للوطن، حين ننبذه راكضين نحو أراض أخرى صورناها فردوسا أرضيا مزهرا.. هل يرحمنا هذا الوطن حين نعود له خائبين؟ #القصة الفائزة بالمركز الأول بمسابقة قلم ينبض الغلاف من تصميم: جنود التصميم.