الوجبة الاخيرة

3.5K 166 49
                                    

اغلقت (يمنى) الخط تاركة (عاصم) في حالة من الذهول والخوف الشديد دفعته لمحاولة استخدام الهاتف للاتصال بالشرطة لكنه كشف أنه مخصص لاستقبال المكالمات فقط فقاده ذلك للاندفاع نحو أكبر ساطور معلق والتسلح به والوقوف وسط المكان متأهباً لأي مفاجأة. لم يحدث شيء لفترة طويلة هدأت فيها أعصابه ليرخي من قبضته على مقبض الساطور وينزل نصله بجانب فخذه جائلاً بنظره حوله حتى وقعت عينه على صندوق معدني فوق طاولة العظيم الخشبية فقام بفتحه ليجد وسطه مجموعة من المحافظ والمفاتيح وبعد القليل من التفحص اكتشف أنها تعود للضحايا السابقين لتعود له حالة التوتر ويبدأ قلبه بالخفقان بشكل متسارع. التفت خلفه بسرعة وشد على مقبض الساطور عندما سمع باب السرداب يفتح تبعه صرير السلالم الخشبية جراء خطوات ثقيلة وطئته وسارت فوقه ببطء. اتضحت معالم تلك الأقدام ذات الأظافر المتسخة والمتشققة والسيقان المشعرة فبدأ جسده يرتجف و أنفاسه تضيق لكنه تماسك وسحب ساطوراً آخر من ورائه ووقف رافعاً نصليهما أمامه استعداداً لمواجهة القادم نحوه. ظهرت معالم ذلك المسخ المخيف وقد كان نفسه الرجل الذي شاهده على قارعة الطريق وتعقبه عند المحطة لكنه عار وظهره منتفخ وعيناه حمراوان كالدم وفمه الفاقد لبعض الأسنان مفتوح وغارق باللعاب وسالت من جوانيه رغوة بيضاء شعره بدا مبللاً أو مشبعا بالزيت ومناخير أنفه سال منها مخاط ممزوج بالدم وكان يصدر صوت أنين غليظ وكأنه يتألم.
لم ينتظر (عاصم) لحظة هجوم ذلك المسخ المشوه عليه وباغته مندفعاً نحوه لكنه تلقى ضربة خاطفة وسريعة على وجهه أسقطته هو وساطوريه أرضاً. بعد ما زفر نفساً عميقاً أخذه بدأ بالزحف على بطنه نحو بقية السكاكين المعلقة ليتسلح بها لكنه لم يلحق لأنه أحس بذلك المسخ ينقض فوق ظهره غارساً أسنانه في زنده منتزعاً قطعة كبيرة من لحمه دفعته للصراخ بصوت عال مشبع بالألم. بقي المسخ يمضغ قطعة اللحم باستمتاع ممتطيا ظهر(عاصم) الذي لم يستسلم واستغل فرصة انشغاله بالأكل ونهض بسرعة مفاجئة ورفع المشوه عالياً وحذف به للوراء وجرى نحو أقرب سكين معلقة وقبض مقبضها واستدار في الحال ليواجهه لكنه تفاجأ بأن المسخ قد وقع على أحد المعاليق وانغرس خطافها في ظهره.
بقي المسخ معلقاً يصرخ ويشوح بيديه محاولاً الوصول لـ (عاصم) الذي وقف يراقبه مصدوماً حتى أدرك أنها فرصته للهرب فهرول توجهاً للسلالم لكنه توقف قبل صعوده منزلاً رأسه متفكراً في الاحتمالية نجاة ذلك المشوه فعاد ووقف أمامه رافعاً السكين الكبيرة بنية طعنه.
لم يلحق على قتله لأن (عاصم) سقط على وجهه قبل أن يوجه طعنته عدما قامت (يمني) بغرس السكين التي كانت بحوزتها سابقاً في كتفه لم يفقد وعيه لكنه لم يستطع الوقوف فوراً وعيناه أصيبتا بزغللة شديدة جراء فقدانه كثيرًا من الدم منعته من رؤية أي تفاصيل في المكان عدا خيال (يمنى) تحاول تحرير أخيها وهي تصرخ وتبكي.
مسح (عاصم) مكان الطعنة بيده واكتشف أنه أصيب بجرح غائر عندما شاهد يده حمراء بالكامل هز رأسه عدة مرات لاستعادة تركيزه وما أن تمكن من ذلك حتى نهض وجرى نحو السلالم صعوداً. انتبهت (يمنى) له ولحقت به مسرعة وقبل أن يخرج من فتحة باب السرداب أمسكت قدمه وسحبتها مما تسبب بسقوطه على وجهه وتحطم أسنانه الأمامية على إحدى العتبات وسقوط السكين من يده أيضاً.
استدار نحوها وجسده بالكامل ينبض ألماً وهو يكاد يفقد وعيه لكنه تمالك نفسه وانتفض عندما شاهد (يمنى) تقف فوقه ممسكة مقبض السكين الكبير بكلتا يديها رافعة قمة نصلها فوق رأسها وبوجه جنوني ساخط تقول :
"سيكون طعمك لذيذاً لنا وأنت مرعوب هكذا قبل موتك!"
رفع (عاصم) قدمه وثني ركبته وقال قبل أن يوجه رفسة قوية لبطنها : "كنت أظنك نباتية!"
تدحرجت (يمني) من فوق السلالم واستقرت على أرضية السرداب..
لم يضيع (عاصم) الوقت وخرج في الحال وأغلق المزلاج خلفه و بدأ بالسير مترنحا نحو باب الخروج ومن خلفه كان يستطيع سماع صوت صرخات وطرقات (يمنى) الغاضبة على باب السرداب لايتوقف عن السير في الغابة التي أسفرت بضوء الفجر الخافت حتى وصل للسيارة وركبها لكنه تذكر أن المفاتيح لا تزال معها فضرب المقود بقبضته غاضباً. طرأت على باله فكرة في لحظتها ومد يده وكبس زر فتح الصندوق الخلفي مخرجاً منه جالون البنزين ليعود ادراجه للمنزل وعند وصوله كان لا يزال يسمع صرخات (يمني) الجنونية الخافتة قادمة من الداخل.
نزل الغطاء عن الجالون وبدأ بسكب محتواه فوق عتبة الباب وعلى الجدران الخشبية حوله حتى أفرغه بالكامل ثم أخرج علبة السجائر من جيبه وأشعل سيجارة بولاعته التي رماها على العتبة المشبعة بالبنزين لتقفز النار متوهجة وتبدأ بالتهام المنزل. 
اخد(عاصم) بضع خطوات للوراء وهو يتأمل النار المتصاعدة وهي تهم المنزل خلال تدخينه للسيجارة وسماعه لصرخات (يمني) الغاضبة تتحول لصيحات استنجاد بعد دقائق قليلة انقطع صوتها حول المكان الشعلة ضخمة من اللهب الأحمر فقرر وقتها الرحيل من المكان لكن مع ارتفاع ألسنة اللهب وسقوط بعض أجزاء المبنى انكشف له منظر أثار انتباهه في الفناء الخلفي للمنزل.
شاهد لمعاناً منعكساً من على ما يشبه الزجاج فرمى بعقب السيجارة أرضاً وسار نحوه واقترب منه بحذر ليرى مجموعة سيارات مركونة كان من ضمنها سيارته وعندما تفحص مقابض بعضها وجد أنها غير مقفلة ومفاتيحها بالداخل فوقع اختياره على أكثر سيارة مملوءة بالوقود وركبها وأدار محركها لأن الوقود في سيارته لم يكن كافياً لإخراجه وإبعاده مسافة كافية.
بعد سير قصير على أرض وعرة وصل لبداية خط سريع فتنفس الصعداء وملكه في الحال مبتعداً قدر الإمكان عن المنطقة. بعد نصف ساعة تقريباً أقبل (عاصم) على نقطة تفتيش تكونت من دوريتين فتبسم وشعر بالراحة والاطمئنان لأن جرح كتفه كان لا يزال يترف بغزارة وشعوره بالدوخة تحول لغثيان ورغبة بالتقيئ وكان بحاجة ماسة لعناية طبية مستعجلة.
توقف (عاصم) عند النقطة منزلاً النافذة بوجه متورم نازف لكن مبتسم وقال : "الحمد لله أني وجدتكم ..."
نظر الشرطي له بخليط من التعجب والحذر وقال : ما بك؟

(عاصم) زافراً : حكاية طويلة سأكون مسروراً بروايتها لكم لاحقاً لكني أحتاج للإسعاف في الحال

(الشرطي) موجهاً نظره بريبة لمؤخرة السيارة : "افتح الصندوق .."

(العاصم) غير مستوعب ما يحدث : ما .. ماذا؟
عاد شرطي آخر وشاركها الحوار وقال لزميله : "هل هناك مشكلة ؟"
- نعم.. إنه يرفض فتح صندوق السيارة
(عاصم)بارتباك ضاغطاً على زر فتح الصندوق : لا لا أبداً تفضل
سار الشرطي لمؤخرة السيارة بينما طلب الآخر من (عاصم) إطفاء المحرك والترجل منها..
(عاصم) : أنا لا أفهم ما الذي اقترفته ؟
فتح الشرطي الباب ثم شهر مسدسه بوجه (عاصم) وصرخ فيه : ازل على ركبتيك وارفع يديك للأعلى حالاً!
نفذ (عاصم) أوامر الشرطي وهو في حالة من الخوف والاستغراب ..
وضع الشرطي الأصفاد الحديدية على سواعده ووجه نظره لزميله التي أومأ له بالموافقة فأعاد نظره لـ (عاصم) وقال : هل هذه سيارتك؟
(عاصم) بارتباك : لا ...

  -سرقتها إذا

(عاصم) بتوتر شديد: لا لم أسرقها .. استعرتها فقط ؟

  - آها استعرتها .. وهل هذه الدماء الملطخة على ملابسك من الشخص الذي استعرتها منه ؟

(عاصم) : أنتما تسارعان بالاستنتاج! .. دعوني أشرح لكما !

رفع الشرطي (عاصم) وأوقفه قائلاً : كنت أظنك تريد الشرح لنا لاحقا

(عاصم) وهو يكاد ينهار : صدقاني أنكما ترتكبان خطاً جسيماً!

  -كنا نعرف أننا سننال منك يوماً ما لكن لم يخطر ببالنا أنك ستأتي إلينا بأقدامك وتسلم نفسك بنفسك

(عاصم) : عن ماذا تتحدث ؟!
أجاب الشرطي الآخر بعد ما أخرج كيسا بلاستيكيا أبيض ملوناً بالدماء من صندوق السيارة ورفعه للأعلى قائلاً :
"نتحدث عن جرائمك التي ارتكبتها طيلة الأشهر الماضية وكنت تستخدم هذه السيارة السوداء المنزوعة اللوحات لتهرب بها..."
حاول (عاصم) شرح وتبرير موقفه لكن الشرطيين لم يستمعا إليه ورميا به في المقعد الخلفي لإحدى الدوريتين وأغلقا الباب خلفه لتوجه أحدهما للدورية الأخرى ويمد يده من النافذة مخرجاً سماعة جهاز النداء ويقربه من فمه ضاغطاً بإبهامه على جانبه قائلاً : "لقد قبضنا أخيراً على السفاح الملقب بـ ((جحيم العابرين)).. نحتاج دعماً لمصادرة السيارة المستخدمة في جرائمه .. حول."

جحيم العابرين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن