بِدايةُ قد خَطوّناها دُون رَغبةِ مناَ، بداياتُ قد حددت ماَلم نُحدِده بأنفسنا، دُون علمناَ، دون استشارتناَ حتى،
اِذاَ كانَ كذلك؟ فأين الاِختيار؟
....
في غُرفةِ قد هُجرت، ودَفنت ما خُلِّد أَنذاك، طُويت الصفحة، وطُويت اخرى، وطوّي الكتاب اخيراً، وأتى كِتاباً أخر،
ليطوّى بعدد صفحاته..
طَويل القامة، عريضَ البُنية، ابيضَ البشرة، جالساً على كُرسيِ خشبي، مُسنداً رأسه فوق قبضة يَده الصلبة،
مُصوباً حدقة عيناه السماوية، رامقاً اللا شيء بحدة، تركيزه؟
بداَ وكأنه يغوص في ذكرى قاتلة، في صراعها، وندمها،الصمت، قد طغى المكان، بعد هدوء الرياح، التي كانت تجذب وتُفلت النافذة، مردفةً صريرِها المُزعج،
اشعة الشمس قدْ طُبع اثرهاَعلى بِلاط الغرفة ذاَ اللون البُني،
خُطوة... تَليها خُطوة اخرى، خطوةً ثانية، مُقتربة،
أخيراً قد فُتح البابْ كاسراً صريره الصمت،
في عتمة ذاك الباب الذِي فُتح للتوّ ساقَ شخصِ ناعمة، ورقيقة، كانت بالطبع ساقَ فتاةِ،
كان هوَ الأخر لاَ يزالُ منغمِساً مُتناسياً مُحيطه، وواقعه،
' أبي!'
. . .
مَوجةُ صمتِ اُخرى، لا يزالُ بسامِعها،
لِتكسر ذاك الصمت، خطوات كعبهاَ نَحوه،
وقفت نَحوه تصُد اشعة الشمس، وتضع يدهاَ اليُمنى على كتفه الأيمن، وتُعاود، ' أبي!' ... 'أبييي!'،
اخيراً تحرك ذاك الجسد الصلب، ورفع رأسه بدهشة، قائلاً بتعلثُم ' ااه، نعم، ماَ الأمر؟'
مدّت كلتاَ يديها، وأحاطتها حول عُنقه وارتمتْ بين أحضانِه،
قائلةً بِصوتُ حنُون ' أبِي، لا تُفكِر فيماَ مضى، ألاَ ترى؟
لقد تخرجتُ، وكبِرت، وهاَهي ابنتك مخطوبة، فلِما تُرهق نفسَك في قارب الماضي، الاَ ترى؟ لقد رُفع شراع ذاك القارب، وأبحر،'تلك التعابير الحادة، التي اعتلت مَحياهُ منذُ بُرهة، قد شقتهاَ ابتسامةُ واسعة، لِيخرُج من بينهاَ صوتُ خشن،
' وهل وصلَ ذاك القارب الى وِجهتهِ يا عزيزتي؟ ام لا يزالُ مُبحراً؟'
رفعت رأسها ونظرت اليه، راسِمةً ابتسامة على وجههِاَ قائلة،
' نعم! لَقد وصل،'
اطلق ذاك الأب ضحكته، تردد صداها، في زوايا تلك الغُرفة، على اجابةِ ابنته،
بَينما الأب وابنته يتبادلانِ أطراف الحديث المُضحكة، ليقتحم تلك الغرفة شَخصان، طوِيلانْ قد انهكهما التعب، من اللهاث، أكانَا يركُضان؟
' بِيلاَ ، انتي هُناَ؟'
توقفاَ الجالسان هناك عن الضحك فورَ دخولهم، ونظرا اِلى الواقفان امامهم التي بدت حالتهُماَ يُرثى لها،.....
' في الحقيقة ما أنا بمعتقده انَ الشخص المُثير للشفقة هوَ المُدلل، ولكِن ما يُحبطك، انك تُدلل بلا رغبةِ منك، وجزءُ منك، لا يُدلل، وهوَ يتوق التدلل، اِنه بقربك، ولكن لما عالمان يفصل كليناَ؟ فقط لأجل الشكل الخارجي لك، يُحدد ماهيتك،'
-
اعتقدت دوماً أن وُجودي في الحياة بِذاته خطأ، أو لم يكن عليَ فتح عينيا أنَذاك؟ حينَ وُلدت رضيعاً مضى على ولادته، ثانية، وَلكن، ما أنا على يقين بِه، أننا لم نُولد سداً،
وَوُجودنا بين احضان هؤلاء، واستنشاق هواء هاتِه البيئة ليسَ سداً ايضاً
اأُعرفكم عني؟ حسناً
أُدعى ألبِرت، وأنا في الأربعين من عُمري، أعملُ كقاضِ
وبالنسبة للعلاقة، فأنا أرمل، وأمتلك صِغاري الثلاث، بالنسبة لي هُم صغاراً للأبد،
اِبنتي الكُبرى بِيلاَ والتوأم ' ماثيو و ماريوس'
من أين سأبدأ؟جَوهرُ البدايةِ كانَ في ذاكَ اليوْمِ الماطر، أتذكر انها كانت تُمطر بغزارة، حينَ قررَت والدتي ان تُمد بأخي التوأم ' جُوزيف' لعائلة اُخرى تتبناهْ وتحتضنه برحابة صدر،
أتذَكر جيداً كيف كانت تعابيره واقفاً في عتمةِ الباب مُقاوماً لدفعات ايادِي الخدم، وصراخهم عليه،
' اذهب، اترك هذا، أُمك تنتظرك في السيارة،'كُنت واقفاً بلا حولِ ولا قُوة، لا سلطة لِي لأمرهم بالتوقف والانصراف، ولا قوة جسدية لي، لحمل اخي والهرب به بعيداً،
بللت قطراتُ المطر ذاك الجسد الهزيل الضعيف، الذي لم يجد من الطُرق سوىطريقِ المُقاومة، يذرف دموعاً غزيرة، قطراتها كانت سِكيناً يجتاح قلبي، عيناهُ التي صُبغت بلون العسل قد بدتدامية، رامقتاً اِيايَ باحتقارِ شديد،
بداَ وكأنهُ يقُول لِي، ' لا احتاج شفقتك، ولا نظرتك'
أتذكر جيداً انينه، وصوته الشجِي منادياً مستنجداً يبقيه هُنا،
' لا أُريدُ الذهاب، أُحب البقاء هُنا، ماهوَ ذنبي انني وُلدت هكذاَ، أُمي .. أبي..،' ممسكا بطرف الباب الذي كان على وَشكِ الاِغلاق دافعاً اياه بكلِ قُوته لكي لايُغلق ثم رمقني بنصف نظرةِ وقال، ' ألبِرت أستترُكني؟'
أغلق ذاك الباب الذي كان لوهلةِ، بين صراع الدفع من الجهتين على أخر كلمة قدقالهاَ والتي كانت ندمِي،
' أستترُكني؟'
كان صداها يتردد الى ذهني بقسوة، وجهت هذه الكلمة نحوّي اصابع الاِتهام، استدرتمغادرا قاصداً وِجهتي الغرفة،
ولكن لم أقوى على الوقوف وحفر اثار الخطوة، لقد أصبت بالشلل وانهرت في ذاك الرِواقالمظلم، كان قلبي يعتصر يكادُ ينفجر، رفعت يدي واعتصرت صدري، لعلى وعسى ان يقلضغطي، ولكن هيهات، مازِلتُ اتخبط بين صدى كلماته،
أهِ منك يا اخي، مالذِي فعلته بي أنَذاك؟ أرهقني التفكير وتعبت، هدأت عاصفتي وغفوتاخيراً،
كُنت أركض وأركض بُغية لحاق السيارة التي اصطُحب بها أخي، كان صوتُ الرعد مُخيفاًولكن وقفت لوهلة احاول التقاط انفاسي، ووجدت نفسي وسط مكانٍ مهجور لا حياة فيه، قدرُكِنت سيارة أمي هناك، عاودت الركض نحوها،
وما ان وصلت لتلك السيارة وجدتُها محطمة زُجاجها منكسر كانت مُريعة أصبت بالذعر،منادياً ' أُمي؟ أخي؟
اين انتُما؟' كنت اسير وأسير في تلك المنطقة مكرراً ' أمي؟ اخي؟' ولكن مامِناشارة، وقفت قليلاً أُحاول استيعاب أين أنا، ولكن فجأة .. سمعت صوت سقوط كأسٍوانكساره،
وتناثر زُجاجه، تتبعت ذاك الصوت ووجدتُ نفسِي داخلَ منزلِ بداَ وكأنه مهجورٌ منذسنين عديدة، ما اِن دخلته، حتى أجد على مصرعيّ بُحيرة من الدماء، وجثةٌ مقتولةتغرق في تلك البُحيرة، ولكِن لضوء القمر الذي انار عتمة المكان، ميّزتُها، كانتسوى جثة والدتي مقتولة وبجانبها، أخي، وفي يده سكينةً تتقطر بالدماء، أصدرت صوتشهيق، دلالةً على صدمتي، غرابتي، نظر نحوي بنظراتِ شخصٍ يتوق الى القتل، وما زادنظراتُه رُعباً ابتسامته العريضة.... يُتبع.