وتَعتقدُ أنكَ بخيرٍ حينَ تُمطر عليك الحياةُ القليلَ من الأمل والرخاء، ولكن إعلم أنه عندماَ يتغيُر طقسُهاَ فإنكَ تكونُ هشاً تطيرُ به الحياة إلى وِجهة لم ترضى إختيارها ولكنك لم تضعهاَ في الحُسبان فتُصبح الحياةُ غيرُ عادلة وقاسية...ولكنهاَ قبل كل شيءِ تتغير جذرياً من نقطةٍ لم تُدرجها في قاموسِ إحتمالاتك...فتتيحُ لك آفاقاً عدة ومصادر كثيرة لتدوّن درسك...واختر أي مصدرٍ لامس فُؤادك؟...
لنعُد..يتَنهدُ ألبرت بإرهاق مُسنداً رقبَتهُ على مسندِ الكُرسيّ متمتماً
" صَدقتِ في نقاطٍ يا أٌماه"
"يهوىَ هذا القلبُ الذي قُيّد بسهامِ كلامِك لُقياكِ ولو في المَنامِ"
" أيمكنُني أن أكُون هشّاً الأن في سبيل شوقي لكِ يا أُماه؟ فالعاَلمُ مُوحشٌ بالفِعل في غيابِ هالة وُجودك..."
شددتُ آنذاكَ على وجهي بيديّ الضعيفة وأناَ أعتصرُه بألمٍ وغُصة تأبى التحرر في نهايةِ حلقي وأناَ أُتمتمُ بصوتٍ متلعثمٍ يُحاول ألا يَشهقَ بحُزن،" أهذا...أهذا مـاَ قصدتِه ياَ أمي؟...ستُغادرين؟"
بلاَ إدراكٍ مِنـي توّجهت الـى تِلكَ الجثة ذُو تعابيرِها المصدومة
بخطواتٍ سريعةٍ وعنيفةٍ نحوَه... أشدّ ياقة قميصه بيديّ المرتجفتان وأرمقُ عيناهُ العسلية التي لمحتُ فيها بشاعةَ منظري والدموع شقتّ طريقهاَ على خدّي بغزارةٍ وأبادِرُ في الصُراخِ في وجهه وانا أهزُه بمشاعرَ الحِقدِ نحوه..
" جُوزيف مـالذي تقصده؟"
" جُوزيف مالذي تقصده؟ بالله عليك أجبني وأرح اوتار أعصابي"
" بالله عليك"
" ماذا تقصد بأنك لم تقتلها؟ ماذا تقصد أكاد أُجنُّ ألا تَعلم؟ "
صرختُ بكل قوتي بصوتيَّ الشجيّ
" ماذا تقصد؟ ماذا تقصد؟ لماذا والدتي ضحية جريمة؟ لا وجريمتك؟ لماذا أنت وهي في جريمةٍ ماَ؟ بالله عليكمُا"
هدأت وأناَ أُحاولُ مسح سيَلانِ أنفي أثرَ البُكاء وأُردف قائلاً بضعفٍ
" أخبرني..مالذي حصل؟"
ماَ أثار دهشتي تَصنّم جوزيف واستمراره في التحديق بي بنظرةٍ لم أفهم مَقصدهاَ وكأنهاَ تقُول لي " لن أخبرك "
تَمُرّ الثواَني بِتثاقلٍ أم أن أنفاسِي تُزفر بالنفاذ؟عكّر صفوَ تلكَ اللحظة خُطوات مُتسارعة نحوَ الوجهةِ المَشبُوهة حيث يَتواجد ما يُبحث عنهُ بشدة....تصببتُ عرقاً بارداً وتجمدت أطرافي ولم أعد أقوى حتى على أن أخطو خُطوة أو أن أُجهد احبالي الصوتية على الحديث...أي لعنةٍ كانت؟ لأشعر بغدر الوقت وكم أنه غير عادل حتى...صوّبت حَدقة عينايَ السماوية آنذاك وجلّ تلك الهواجس التي اجتاحتني في صميم ذهني الى عُمق قلبي فيه...بالرغم من أن الخطر حاَصرناً من الجوانب إالا أنه أردف ببرود على ذلك الموقف المُتوتر" قم بفعل شيء يا ألبرت، انا لا اريد ان اكون شاهداً في جريمة ولا مُشتبه به"
"..........."
" جُوزيف ".
" نعم ".
إستجمعت شُتات نفسي وهدأت من روعي، جُملته التي أخرسني بهاَ كانت كفيلة لتَكون كابوساً مُرعباً اقتَحم حياتي البسيطة
"إهرب مادامت هناك فرصة وهي الأن، ولا تَعُد".
في عيناه العسلية التي تحاول أن تصدَّ وابل الدموع من الإنهمار قرأتُ فيهاَ العديد من الحِكايات التي يغطي لُّبها مشاعرٌ جياشَة كتمهاَ في سن البراءة ولأن العالم قاسٍ وغيرُ عادل يتغنى فيه ذوي السُلطة أمام الكلّ بقناع العدالة ويدّعي ان جسده كاسيا اياه برداء الإنسانية وفقيه في دروس منطق الحياة، وأمام الضعيفِ يقُوم بضحد العدالة، ويتجرّد من ثوب الانسانية، ويجهل في دروس المنطق...هذا هو كان العالم بالنسبة لي، وبالنسبة لجُوزيف خاصة.....
يُردف ليَ ذلكَ الفتى الضعيفِ الذي لا حول له ولا قوة بصوتٍ شجي يعتصر فيه غُصةٍ أضمرت قناعَ البرودة الذي تلبسهُ منذُ ثوانٍ قائلا:" ولمَ لا أعود؟"أجبتُه بقلة حيلة موضحاً لهُ موقفنا الذي نحنُ فيه قائلاً بنبرةٍ قاسية تناسيتُ فيها البراءة في ذاكَ العُمر...
"لأن لا مكان لك لتعُود إليه بعد الأن جُوزيف.."
لاذت منهُ شهقةٌ بغيرِ دُموعٍ بسبب تراخيه في اعتصار غُصته التي باتت عالقة في أعلى حلقه.....
انا أسف...كانت الجُملة الأمل بمنظُوري لتصحوَ وتعيشَ حُرا إن أمكن...ولكن لم أكن أعلم ان ماسيرافقه للأسوء هو نَدمُه....
إستوقف تلك اللحظة مُحاولة فريق الشُرطة في إقتحام الغُرفة جُفلت من مُحاولاتهم العنيفة في كسرِ الباب ظناً منهم ان لا احد في الغُرفة، وذُعرت لأن جُوزيف بجواري...وكأنني كنت انا من شَهد الجريمة ....
رَباه أي ورطةٍ انا فيها...
.سُرعان ما نظرت لجوزيف الذي كان مُرتعباً من تلك اللحظة وأُعاود النظر للباب بهلع...أمسكت معصم جوزيف بلا وعي مني وأشرت بالسبابة نحو بابٍ خفي، لا يعرفُ بوُجوده سوايَ انا ومن قام ببناء هذا المنزل فقط....فتحت الباب الخفي على عجلة ودفعت جُوزيف بقوة داخله واختتمتت لقائنا بجملتي
" إذهب وجّد سبيلاً يُمدك بشغف لتَعيش وانسى الماضي ، وكن نُسخة جميلة في المستقبل...الطريق آمن لذا لا تتماطل!".
وكانت أصعبُ ما قمتُ بفعله هو غلقُ ذلكَ الباب وعَدمِ فتحهِ مُجددا...لقد أغلقت حياتي الهادئة يا جُوزيف آنذاك....وأقتُحمت الغُرفة ووجدوا على مصرعيهم طفلٌ صغير يجلسُ في زواياها ليتسلل بينَهم رجلٌ طويلٌ عريضُ البُنية ذو شعرٍ بنيٌّ داكن يصلُ لتحتِ ذُقنه مُبعداً إياه خلفه ولكن لنعومته تجرأت خُصلةٌ وعصت أمره وتدلت على جبينه، وعينانٌ زَرقاوتان كلون بحرٍ تخلت عنهُ أشعة الشمس في المَغيب ولم تضفي له بريقا ليتلئلئ به بأمواجه ذو بشرةٍ قُمحية ...
هالة طغت على صمت المكان لهيبة الحاضر ...مُرتديا بِنطالاً كلاسيكياً ذو لون أزرق قاتم كلون عينيه البليدة الخالية من أية مشاعر ... مع قميصٍ أبيض تاركاً أول ازراره غير مقفولة لتُرى قلادة فضية .... مُرتدياً فوقهُ سُترة كلاسيكية كلون بِنطاله مضيفاً لحلّته تلك ساعة فضية متدلية حول معصمه الأيمن مُختتماً بذلك معطفَه الشتوي الأسود ...يتفحص المكان بنظرةٍ ثاقبة ودقيقة وأخيراً جاء دوري ليتفحصني بنظرته تِلك...يَرمُقني من أعلى رأسي لأخمصِ قدماي ليخرج عن ذلك الصمت المُهيب صوتٌ أجش مع أزيرٍ يخرج من حلقه قائلا:
" مالذي يفعلهُ طفليَ الصغير هناَ؟ في غُرفة مهجورة؟ والاسوء من ذلك اثناء حادثةٍ مُروعة؟"إبتلعت ريقي البارد وشعرتُ ببرودة الاوكسجين يسري في جميع انحاء جسدي...مُكملاً كلامه الجاف..
" ألم تسمع؟ والدتك المحبوبة قُتلت!"
لم يكن ما أثار صعقتي جُملتهُ تلك، لا لا ليس ذلك....وإنما تعابيرهُ الباردة المُرعبة...خاصتاً حينماَ فرت ابتسامةٌ ساخرة من بين شفتيه وهو ينطقُ بحروف هاته الجُملة..وكأنه إقتنى تلك الحروفَ خِصيصاً لإرباكي....
نَعم إنه هو..والدي
يُتبع...