١.

79 14 25
                                    

كَمَن صُبَّ فَوقَ رَأسِه قَدرٌ لَا بَأسَ بِه مِن المَاءِ البَارِد، وَعَلَى حِينِ غَفْلَة وَجَد نَفسَه فِي أعْمَق نُقطَة بِالمُحِيط الدَّاكِن؛ كَانَ هَذا حَالُي بَعدَ سَمَاع الخَبَر المُفجِع.

«كَيفَ...؟ كَيفَ مَاتَ بِحَق الخَالِق؟»
هَمَسْتُ بِحَذَر وَقَلَق لِأقْرَب صَدِيقٍ لِي جَالِسٍ خَلفِي، لَا أدْرِي كَيفَ أتَنَاوَل الحَدَثَ، وَلَم يَكُن رَفِيقِي أفْضَلَ حَالًا مِنِّي.

«لَا أدْرِي كَيْفَ أوْ مَاذَا حَدَث، سَمِعتُ الخَبَرَ مِن رَيَّان قَبْلَ لَحَظَاتٍ فَقَط؛ لَم أمْلُك فُرصَةً للسُّؤَال.»

كَان وَقْعُ الحَادِث أسْوَأَ بِمَرتَين بَعْد، فَقَد كُنَّا عَلَى وَشكِ الخُضُوع لِأَوَّل اخْتِبَار مِن الاخْتِبَاراتِ النِّهَائِية، ومِمَّا جَعَل الأُمُور أسْوَأ أنَّها كَانَت مُحَدِّدة لاتِّجَاهَات الدِّرَاسَة الجَامِعِية.

شَقِيقُ زَمِيلٍ لِي تُوُفِّيَ قَبْلَ أَمْس.

«هَل هُوَ بِخَير؟ هَل سَيكُون قَادِرًا عَلَى إتمَامِ الاختِبَار؟»

«لَا أدْرِي، إنَّه هَادِئ فَقَط وَلَا يَبدُو عَلَيه الانْهِيَار أوْ مَا شَابَه لَكَن جَمِيعُنا يَعلَم كَم كَانَ رَائِد قَريبًا مِن أخِيه الصَّغِير رَحِمَه اللَّٰه.»

أجَابَنِي هِشَام بِنَبرَة مُتَعاطِفَة، وَرُغمَ أنَّي لَم أكُن قَريبًا مِن رَائِد سِوَى لِبِضْعَة أشْهُر فَقَط إلَّا أَنَّه امْتَلَك مَكَانَة مُنَاسِبة لَدَيّ لأشْعُر بِهَوْل الوَضْع، أُكَنَّ لَه احْتِرامًا خَاصًّا بِسَبَب شَخصِيَّته المُباشِرة وأَهْدافِه الوَاضِحَة- وَالتِي سَتكُون صَعبَة الإنجَاز إنْ بَقِي رَائِد عَلَى حَالِه مِن الخَوَاء وَالتشَتُّت الآن.

وكَمَا تَوقَّعتُ تَمَامًا، قَبلَ مُرُور نِصفِ الوَقْت رَأَيتُ رَائِدَ مُستَلقٍ بِرَأسِه فَوقَ أورَاق الاختِبَار وحَاوَلْتُ أنَا وَرَيَّان ورَفِيقُه رَامِي أنْ نُخَفِّفَ عَنه رَغْم تَعلِيقَات المُرَاقِبين عَلَى لَجنَتِنا، لَكِن عَينَاه الخَاوِية والسَّوادُ أسْفَلَها لَم يَكُونَا هَيِّنَين للتَّعَامُل مَعَهُما فِي الوَاقِع.

فكَّرتُ للحَظَات قَبلَ اسْتِئنَاف إجَابَاتي كَيفَ أن الكَثِير مِن حَوادِث المَوتِ تَحصُل حَولَي فِي الآوِنَة الأخِيرَة فَجأَة، وَالأَحرَى لَا يَجِب أَن تُدعَى حَوادِث؛ لأَنَّهَا بِالأَصْل مُقَدَّرة قَبلَ بِدء الزَّمَان.

انتَهَى الوَقتُ المحَدَّد وَأَجَابَ رَائِد مَا قُدِّرَ لَه أن يُجِيبَه، وَلَم أسْتَطِع التَّحَدثَ مَعه بَعدَها إِذ رَأيتُ رِفَاقَه يَجتَمِعون حَولَه وَيُرَبِّتون عَلَى ظَهرِه عَلَّ فِعلَهُم هَذَا يُخَفِّفُ القَلِيل مِن حِملِ قَلْبِه.

عُدتُ وَعَقلِي مَا بَينَ حَربَين، يَشغَله كَيفَ أدَّيتُ بِالاختِبَار وكَيفَ حَالُ رَائِد وَعَائِلتِه، والثَّانِيَة انتَصَرَت، عَرفْتُ مِن هِشَام أنَّهُم لَم يُقِيمُوا عَزاءً وَلَم أسْتَطِع الذَّهَاب لِرُؤيَتِه أوْ مُكَالَمَته، بَل لَم أكُن مُقرَّبا مِنه لِدَرجَة اقتِحَام دَائِرتِه الوَاسِعة مِن الأصْدِقَاء حَتَّى.

مَا كَان بِاسْتِطاعَتِي غَيْر الدُّعَاء لَه ولِعَائِلتِه بِالجَلَد وَالصَّبْر، وَللصَّبِي بِالرَّحمَة وَالمَغفِرَة، شَعَرتُ بِالأسَى عَلَيه وكَيفَ أنَّ تَعَبَه بِالدِّرَاسَة طُوَال العَامِ سَيَذهَب سُدًى خَاصَّة عِندَمَا كَانَ مُجتَهِدًا وَجَادًّا بِدِرَاسَتِه، لَكِن مُجَدَّدًا تَذَكَّرتُ أنَّ اللّٰه لَا يُضِيعَ أجْرَ مَن أحسَنَ عَمَلا، وَأنَّ هَذَا الابْتِلَاء لَهُو حَتْمًا خَيْرٌ لَا يَعلَمُه إِلَّا اللّٰه.

عَبَث.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن