الحلقة الأولى

4 0 1
                                    

لم تصل رائحة أشجار الكولونيا إلى غرفة الملك تلك الليلة، وبدت أنوار الفوانيس باهتة على غير عادتها. وكان من الغريب أن يشعر بالبرد في ليلة الربيع الدافئ.

بقي الملك طيلة الليل مشدود الأعصاب، متوترا وفزعا، يرى أشياءا غير موجودة ويشعر بالقشعريرة دون سبب واضح. حاول النوم لكن بلا جدوى، وأراد بعض الدفء تحت أغطية الحرير خاصته فلم يجده.
ليلة مضنية، ليلة غير بقية الليالي.

وقبل بزوغ نور الشمس، قام الملك مندفعا في عجالة. ارتدى ثيابه وحمل صولجانه، ثم توجه يقصد قاعة الاجتماع أين صادف أحد حراسه في البهو الخارجي، فطلب منه أن ينادي له بكبير الخدم.

جاءه بعدها بلحظات كبير الخدم يهرول نحوه مذعورا وقال له:
"ما بال سيدي اليوم جاء باكرا هل هناك خطب ما يا ترى؟"

أجابه الملك:
"أرسل بالخدم يطلبون وزرائي الخمس ونبلاء المملكة بأسرع وقت ممكن، سأكون في انتظارهم داخل قاعة الاجتماع."

فقام كبير الخدم دون إبطاء وجمع إليه ما استطاع من عمال القصر، وأرسلهم في طلب الوزراء والنبلاء.

لم تمر ساعة حتى بدأ المدعوون يتوافدون إلى القصر تباعًا. الواحد تلوى الآخر. ملامحهم نسخة متكررة في كل وجه بسبب حيرتهم، وحال لسانهم يقول الشيء نفسه، ما خطب الملك اليوم يا ترى.

ظل باب القاعة مفتوحا يستقبل الحضور إلى أن امتلأت عن آخرها، والملك جالس فوق كرسيه يتوسط الجميع، عيناه شبه المغمضتين تنظران كل من يعبر عتبة المدخل في سكون، لا يتفوه بكلمة حتى قد يظن من يراه أنه سارح بعقله في مكان ما.

في هذه الأثناء، اقترب كبير الخدم من الملك وهمس في أذنه قائلاً:
"سيدي، قد جاء كل الذين طلبت مني دعوتهم. هل ترغب في البدء بالحديث الآن؟"
فأومأ الملك بوجه، ثم قام عن كرسيه، وإذ بصمت مخيف ورهبة طوقا المكان برمته. نظر الملك إليهم وقال:
" قد سمعت منذ أيام أن الكاهن اثيلوا الذي لم يمض على قدومه إلى المملكة أكثر من سنة، قد اجتمع حوله عدد كبير من الناس يستمعون لتعاليمه ويحفظون أقواله، هذا غير التقدير والاحترام الذي يكنون له، فهل هذا صحيح وما تقولون أنتم فيه؟"

أجابته إيلينا زوجة الوزير الأول في المملكة قائلة:
"مجرد معتوه يقتات على انكسار الشعب وسذاجة البسطاء، فكل الذين يذهبون إليه ليسوا أفضل حال منه، عصبة من الفقراء والمتشردين والصعاليك. لن يشكل شخص مثله ولا الذين من حوله خطر علينا نحن النبلاء وذوي المقام."

ثم أعقب أحد النبلاء قولها بقوله:
"أرى يا سيدي أن نخرجه من أرضنا غريبا كما جاءها، أو لنغتله ولنخلص منه نهائيا، فأمثاله من الناس كالكلب المسعور الذي يعض يد سيده التي أطعمته لسنوات. لأن ما وصلني من خدمي أن أغلب تعاليم اثيلوا ترتكز على نبذ الطبقية والسعي لقمعها، وتقسيم الثروة بالتساوي بين أبناء المملكة الواحدة، وعدم الخوف من السلاطين والامتثال لأوامرهم"

عاد الملك للتحدث بصوت فيه غصة واضحة:
"تماما .. هذا ما يؤرقني، خصوصا أن حشود كبيرة من الرعية قد التفت حوله، وقلوبهم صارت على قلبه، ومن المحتمل أن نرى بعد أيام بعض محاولات التمرد عندها سيدق ناقوس الخطر فوق رؤوسنا، وقد يسوء الأمر أكثر ويخرج الوضع عن سيطرتنا ونفقد زمام التحكم ..."

وبينما الملك يشرح خطورة الوضع، رفع جوهان –أصغر الوزراء الخمس- يده كاستئذان للحديث، فسكت الملك وأشار إليه برأسه أن تحدث، فقال:
"اعذرني يا سيدي .. 
اتفق معكم أن ما يحدث في دير العبادة عند الناسك اثيلوا أمر خطير، ولا يمكن أن نتغاضى عنه، فالأزقة مشحونة كما لم نشهدها من قبل وقد ينفجر الناس في أي لحظة، ولكن يجب ألا نتسرع، خصوصا الآن، ففكرة اغتيال اثيلوا أو طرده ستضع حبل المشنقة حول أعناقنا، لذلك أرى من الحكمة يا سيدي أن نظمه لصفوفنا ونستغله لصالحنا"

عندما سمع الملك هذا الاقتراح، تغيرت قسمات وجهه كما لو أن السماء انشقت وأشرقت بنورها الملائكي على وجهه، وقال:
"وكيف ذلك يا جوهان؟"

فأجابه:
"سأتكفل بكل شيء فلا تشغل بالك يا سيدي .. فقط أسدي إلي معروفا وأقم وليمة أربعة أيام، وطبعا سيكون الناسك أحد المدعوين إليها. عندها أكون قد أتمت حيلتي، واثيلوا سيخضع طوعا لأوامرك"

إرتاب الملك قليلا من كلام جوهان، وأمسك طرفي كرسيه بيده وجلس في مهل عميق، كعمق تفكيره في اقتراح جوهان. وبعد دقائق من الصمت أجاب الملك جوهان قائلا:
" حسنا.. افعل ما تراه مناسبا، فقط خلصنا من هذا المأزق المحدق بنا"

ثم خاطب كل من بالقاعة قائلا:
"كما سمعتم الآن، بعد أربعة أيام سيقيم القصر وليمة ضخمة على شرف اثيلوا، فلترتدوا أبهى ما لديكم من ألبسة وحلي، ولتكن وليمة فرح وانتصار."

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 16, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الصراع الأزلي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن