الفَصل الأول

340 27 8
                                    

١٥ ابريل، ١٩١٧
٣٠ شارع أوكسفورد،
لندن،
انجلترا.

صَديقي العزيز كَاليوس،

لَقد مَضت ستة أشهر مُنذ آخر رد، نِصف سَنة مَرَّت ولَا أَعلم فيها كَيف حَالك. مَاذا تَفعل؟ كَيف تَقضي أَيَّامك؟ لا أَعلم. هَذه المَرَّة أَجد أن صَمتك هَذا يَخنقني أَكثر مِن غرفة العمليات التي أَجد نَفسي فيها دومًا.

منذ انقطعت عنّا الأخبار، أَشعر وكأن رؤيتي لِلعالم أَضحت ضَبابية أَكثر، بِشُعور ثقِيل يَعتلي قَلبي. حَتَّى عندما أعود لِلمنزل كل يوم. أَجدني يَا صديقي، أُحدِّق بِمقبض الباب الذي تتمسك به أناملي، أُحدِّق بِالمشجب الفَارغ يتدلى في وحدته، وبِالظلمة التي لا تنتظر أَحدًا. وما إن أُضِيء الشمعة، أُطالع الظلال تتشكل برويَّة عَلى الجدران والأرضيَّة.

مَا إن اقترب من الصورة المعلَّقة على الحائط، أحدق باطارها المزخرف الأنيق، فما يَحمله ذلك الاطار، مطليّ بالأبيض والأسود، تبدو الوجوه رماديَّة بِلا ملامح ولا تحمل أيَّة مَشاعر. في الآونة الأخيرة يا صديقي، أصبحت أمر بشيء عجيب، لم أجد له اسمًا ولا هوية.

أصبحت أرى خَطوطًا سَرِيعَة، شَائكة لم تَعرف الرقَة يومًا، تَتداخل في رَقصة مُجنونة، مُتعاكِسَة في الاتِجاه، مُتنافِرَة. أرى خَطوطًا بألوان بِلا صاحِب، تتألق، وتتلاشى، مُلتَصِقَة بالوجود.

أرى مَوطِنًا لا يَملِك تَقاطُعًا للاصطدامات الكَبيرة، واحتِكاكاتٍ عَديدة لا تَملِك صَوتًا، ولا مَنفَذًا لِلذبذبة. كعالَمٍ مُوازٍ يَعيش الظُلمَة والنُّور معًا، بَينَ الوجود والعَدَم. أرى ذلك وأرى جَسَدي، يَعبُره العابِرون، ولا يَرونَه. أراهُم يَعيشون ويَموتون، وما بَينَهُما، عالِقون في حُجُرَاتٍ صامِتَة بِلا نَوافِذ.

هل هو مَنفذٌ لِلروح؟ لَست على يقين، تِلك المساحات الضيقة، مُوحِشة وخانقة، لا تسعُ شيئًا ولا حَتى لِذرةِ غبارٍ غَمرتها العَشوائِية.

أَرمِشُ بِعَينَي وَلَكِن رؤيتي تَظَلُّ عالِقَة، تِلكَ الخطوط العَشوَائِيّة تَتَحَرَّك مِن جَديد بِلا هَدَف وَلا وَجهَة، نابِضَةً بِالحَيَاةِ وَبِالمَوت. وَلَكِن، وَبِشَكل مُفَاجِئ تَفقُد اتزانَهَا مِن فَوقَ الجَوَانِب، تَرتَجِف وَتَرَاوح مَكَانَهَا بِلا تَوَازن، مستمرةً بالتخبط، لِتُثِيرَ بِدَاخِلِي الهَلَعَ وَالقَلَقَ مِن جَديد.

لا أعلَم عَن مَا تَكُونُ هَذِهِ الظَّاهِرَة، مُهَما أَغْمَضتُ عَينَي بِشَدَّة، أَشْعُرُ بِهَا تَتَشَبَّثُ بِرُؤيَتِي لِأَطوَلِ فَترَةٍ مُمَكنَةٍ. هِيَ فَقَط كُل مَا أَرَاه وَكُل مَا أَفكِر بِه فِي هَذِهِ اللَّحظَة.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 07, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

لَا يُرى || UNSEENحيث تعيش القصص. اكتشف الآن