الغريق

37 2 4
                                    

- ماذا صنعتِ؟ لنرى...
- حضّرتها بعناية، بيتزا تناسب ذوقك سيدي.
- سأجربها أنا وبقية أفراد اللجنة، اذهبي واجلسي هناك ريثما يحين دورك.
- حسناً، ولكن اعذرني هل يوجد ما أستطيع أكله؟
- فؤاد، خذ هذه البيتزا ضعها جانباً.
تذهب الفتاة بعد أن فهمت ما بين السطور وتجلس على طاولة قريبة، المكان يعج بالناس، الزبائن والعُمّال والعاطلين عن العمل الذين يقدمون أجود أنواع البيتزا كاختبار قبول تشرف عليه لجنة من أفضل الطُّهاة والخبازين في هذا المطعم العريق، وبين كل هذا الضجيج تتذكر الفتاة كيف وضعت روحها وقلبها وكل جهدها في هذه البيتزا التي رُميت جانباً فوق أكوام علب البيتزا الأخرى، راجية من الله أن تكون هي المُختارة من بين كل هؤلاء المتقدمين وإن كان هذا شبه مستحيل، على أي حال جلست هناك بصمت منتظرة حدوث معجزة ما.
- مرحباً يا آنسة، أحضرت لكِ فنجاناً من الكابتشينو، سمعتُ أنكِ جائعة.
- أهلاً، شكراً لك.
- تفضلي، اسمي فؤاد، ناديني إن احتجتِ أي شيء.
- شكراً لك فؤاد.
كان الكابتشينو رائعاً ودافئاً، لذيذاً بكل المعايير، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أنه أعدَّ شراباً لجائع، ربما هو من هذا النوع، لو قال المرء أنه عَطِش لأحضر له ما يأكله. نظرت الفتاة إلى كل هؤلاء الناس " لا أمل لدي، ولكنني كسبت فنجان كابتشينو، وأتمنى أن يكون مجانياً لأنه إن لم يكن كذلك س.." يقاطع أفكارها قدوم فؤاد بيده علبة البيتزا، لتعدل جلستها وتتسارع دقات قلبها، ماذا سيقول لها؟ هل تم قبولها؟ هل تذوقوا البيتزا أصلاً؟ تحاول النظر إلى وجهه لعلها تعرف الإجابة قبل أن تسمعها بصوت فؤاد.
يفتح فؤاد العلبة ويجلس مقابل الفتاة قائلاً بابتسامة: كانت ألذ بيتزا تذوقتها في حياتي.
- حقاً؟! ولكن.. لم يؤكل إلا أربع قطعٍ منها.
- نحن أربعة حُكّام، أكلنا ما نحتاجه، ألم تقولي أنكِ جائعة؟
- نعم جائعة وهذه الكابتشينو زادت الأمر سوءاً.
- آسفٌ آسف، لذلك استعجلت الحُكّام في تذوق البيتزا لأحضر لكِ الباقي، يمكنك الأكل والذهاب الآن، ولكن قبل ذلك أتسمحين لي بقطعة أخيرة؟
- لحظة.. الأكل والذهاب؟ لمَ؟ لم أُقبل؟
- ليس كذلك ولكن يجب أن نتذوق كل ما سيُقدَّمُ لنا وبعد ذلك سنقرر.
- ممتاز، أرحتني.
- ولأُريحك أكثر، اقتربي قليلاً..
تقترب بتردد: أخبرني
- هل ترين هذه الصفوف من المتقدمين للعمل؟ هذه الصفوف تتوافد علينا منذ أسابيع، والبيتزا التي قمتِ بإعدادها كانت ألذ ما تذوقته يوماً، البيتزا هذه جعلت كل من تذوقها يبتسم، تعرفين تلك الابتسامة التي يرافقها هز الرأس بمعنى أن هذا هو المطلوب، حتى أن المدير قال "لقد وجدنا ضالتنا" لذا ابتهجي واذهبي للاحتفال مع أسرتك.
- أحقاً ما تقول؟!
- نعم، نعم صدقيني، بالمناسبة ما اسمك؟
- اسمي س......
- لم أسمع ماذا؟
يناديه رئيس الطُّهاة غاضباً بصوت عالٍ يقف خلفه ويضع يده حول عنق فؤاد ليأخذه معه قائلاً للفتاة بنفس النبرة التي ناداه بها
- يا آنسة خذي طعامك واذهبي من هنا، قُضي الأمر ولا داعي لحركات المراهقين هذه. ثم ذهب مسرعاً جارّاً فؤاد خلفه والأخير يلوح للفتاة ويضحك.
- حركات ماذا؟ لقد جُنَّ جنون هذا المُسن، هل سأعمل تحت إمرة هذا المجنون؟ على أي حال لن يُفسد هذا العجوز فرحتي.
تهمّ الفتاة بتناول قطعة من البيتزا وقبل أن تضعها في فمها تلاحظ فتاتين تختبئان خلف عامودٍ من الأعمدة التي تحمل جزء السقف الذي يغطي الطاولات المصفوفة تحته قُرب جدران ساحة المطعم الخارجية، كانت الفتاتين تحدقان بطعام الزبائن ووجوههم، تتنقلان من خلف عامود لآخر وكأنهما تحاولان إخفاء ما يلحق بهما من عار، وهكذا كانتا كقطط الشوارع تنتظران أن يترك أحدهم بقايا طعامه ويرحل دون تكليفهما عناء التسول وحرج الشحاذة والاستجداء الذي يلبسه الفقراء مثل إكليلٍ رديء يُميزهم عن غيرهم، كما خلقت التيجان لتميز الملوك والسلاطين.
وصلت الفتاتان إلى العامود بجانب طاولة الفتاة، كان من الواضح على وجهها أنها تُعاني من تأنيبِ الضمير بعد أن وضعت زاوية البيتزا الشهية في فمها وهي تعلم حاجة الفتاتين لهذا الطعام أكثر منها، تتجمد للحظة وعيناها تنظران إليهما مُختبئتان بجانبها، فتختار أن تكون بطلةً نبيلةً لهذا اليوم كعلامة رضى وشكر للمعجزة البسيطة التي حدثت معها دوناً عن غيرها، وتقرر ترك العلبة بحجة أنها تأخرت عن شيء ما فتذهب مسرعة تاركة وراءها فرصة ذهبية كالتي حصلت عليها.
سارت الفتاة دون النظر إلى الخلف، لا طائل من فعلٍ خيّر لنترقب نتائجه علها تشعرنا بالرضى تجاه أنفسنا، من الأفضل دوماً ألا ننظر إلى الخلف مهما بلغت سعادتنا ومهما بلغ خوفنا ومهما بلغ ترقبنا لأشياء نحلم بها وقد لا ندركها ونتوق لنظرة أخيرة لها قبل أن نفارقها وننساها، ولكن الفتاة فضلت ألا تلتفت وأرادت أن تنسى، إلى أن قفز أمامها فؤاد مجدداً بيده علبة البيتزا يعتريه الغضب.
- لماذا تركتِ علبة البيتزا؟!
- يا إلهي! وما شأنك؟
- هل نسيتِ من أكون؟ أنا فؤاد.
- أعلم تماماً من تكون ولكن ما شأنك لمَ أحضرت لي العلبة؟!
يرد غاضباً: لأنها لكِ.
- عندما تركتها لم تعد لي.
- وعندما أحضرتها عادت لك.
- لا تقل لي أنك أبعدت الفتاتين عنها !
- أي فتاتان؟!
- الفتاتان.. اللتان تختبئان خلف ال.. الفتاتان الجائعتان.
- لم يكن هناك أحد فقط قطتين صغيرتين إن كان هذا قصدك.
- قطتان؟!
- لا تتركيها مجدداً.
- قطتان؟! انتظر.. فؤاد افتح العلبة هل أطعمت القطتين؟
يجيب بصوت عذب هادئ وكأنه لم يكن يستشيط غضباً منذ ثوان قبل أن يسمع اسمه: نعم بالتأكيد، رميت لهما قطعة وأسرعت لأعطيك العلبة وما تبقى منها.
- جيد.
تمضي الفتاة في طريقها دون أن تأخذ العلبة من بين يديه، تمضي وكأنه لا وجود لشخص ما يقف بجوارها فاتحاً علبة البيتزا كما يفتح الشاب علبة خاتم زواج لمحبوبته، تغرق في أفكارها الفتاتان والقطتان، تتسائل ما كان هذا اللبس؟ ليقفز أمامها مجدداً فؤاد يزداد غضبه كلما نطقت الفتاة بكلمة.
- لما تفعلين بي هذا؟
- أفعل ماذا؟
- تتجاهلين كل ما أقدمه لك.
- ولكنني شربت الكابتشينو.
- أجل ربما ارتشفتِ رشفتين أو ثلاث، لمَ تفعلين هذا؟
- عيبٌ عليك أن تتحدث بهذه الطريقة مع من يكبرك سناً.
- أنتِ؟ أكبر مني؟! أرجوكِ اعفيني من هذا الهراء.
- هراء؟! تبدو وكأنك في مطلع العشرين من عمرك.
- لست كذلك! لست كذلك! هل تفهمين؟! والآن خذي العلبة، خذيها.
يمسك يدها بقوة ويضع العلبة في يدها يتغير وجهه الذي كانت تستلطفه الفتاة قبل أن يجن جنونه، ترتجف الفتاة بخوف وترى كل ما حولها من أماكن وأشخاص وألوان ينساب كالماء تحت قدميها ليكشف عن ظلام دامس وسواد لا يضيئه سوى بقاء فؤاد بجانبها.
- فؤاد.. ما الذي يحدث؟
يعانقها بحرارة وقد عاد شكله كما كان عندما رأته أول مرة طويل القامة في الثلاثين من العمر يرتدي ملابس الطُهاة البيضاء، متناسق الجسد، ينظر إليها وكأنها روحه التي خرجت من جسده: لا تخافي عزيزتي أنا هنا، بجانبك.
- عزيزتي؟
- شش لن أدعك تشعرين بما شعرت.
- ما الذي تقصده؟ فؤاد! فؤاد اتركني، ما الذي تفعله؟
- هذا منزلنا الجديد، وأنا لن أبرح جانبك أبداً.. مطلقاً.
تدفعه وتحاول الهرب من الظلام الذي تحول إلى منزل مظلم ينيره شبُاك كبير يسمح لضوء القمر بإنارة بعض زوايا الغرفة، ولكن فؤاد يمسكها بغضب مليء بالحزن والحب مقيّدا يديها بشيء لم تره، ويعانقها حتى تهدأ وتكف عن المحاولة، محاولة الهرب، والصراخ، محاولة أن تفعل شيئاً تجاه ما يحدث، يعانقها حتى تشعر بعجزهما معاً.
- فؤاد.. ما الذي يجري؟ لماذا تبكي؟
- يبدو أنكِ لا تذكرين..
ينظر إليها بعينين حمراوين أرهقهما الحزن والبكاء يعانقها ويضع رأسه على صدرها.
- حسناً استمع إلي، لن أهرب سأبقى هنا صدقني ولكن لا يجوز لك أن تفعل ما تفعله، أقصد.. معانقتي، وأن تقول لي عزيزتي ونحو هذه الأمور الغريبة.
يبقى على حاله يعانقها ويستمع إليها وإلى دقات قلبها ولا ينفك عن النظر في عينيها.
- فؤاد، أرجوك هذا غير مريح، ابتعد، ابتعد ألا تفهم؟!
يحملها فؤاد بين ذراعيه وكأنها قابلة للكسر ويجلسان على أريكة مقابل النافذة يتأملان هذا الضوء الأزرق، يبدو كضوء القمر ولكنه ليس ضوء قمر عادي.
- فؤاد لمَ يبدو القمر كأنه غارق تحت الماء؟
- ليس هو الغريق عزيزتي بل نحن الغريقان.
يضع رأسها على كتفه ويعانقها بلطف وهي تبكي بهدوء، دموعها لا تنزل على خديها وإنما هذه القطرات العذبة تنتشر في كل مكان، وسرب من الأسماك الصغيرة الرمادية على ما يبدو تسبح حولهما بلطف، وبعض الأعشاب المائية الطويلة تتحرك جيئة وذهاباً تضع الفتاة يدها على قلب فؤاد وتنظر في عينيه
- لا أشعر بدقات قلبك.
- ولا أنا أشعر بها، ولكنني حيٌّ الآن.
- جيد، أنا جائعة.
- هذه ألذ بيتزا تذوقتها في حياتي.
تتناول قطعة بيدها، تفتح فمها لتأكلها ولكن لا طعم لهذه البيتزا ولا تشعر بدموعها ولا تشعر بشيء سوى الجوع الذي لا حل له والسكينة برؤية هذا القمر الغارق والحب والدفء الذي تشعر به مع فؤاد هذا الغريب الذي أحبها أكثر من أي شيء طيلة سنوات غرقه.
- لا أذكر ماذا حدث.
- لا تقلقي، أنا هنا بجانبك.
- أريد أن أعرف ماذا جرى.
- ستعرفين عندما ستعرفين.
- لا أعلم لما أشعر بهذا الاختناق طوال الوقت.
- ستعلمين عندما يحين الوقت.
- فؤاد.. شكراً لك على كل شيء، لعلي نسيت ما حلّ بي ولكني لن أنسى أنك كنت الوحيد بجانبي طوال الوقت.
يبتسم ابتسامة مشرقة عندما تقول اسمه وتعانقه رغم العجز والدموع، وحالما تعانقه تتذكر كل شيء بطريقة سريعة متقطعة كمشاهد عالقة على حافة ذاكرتها الغارقة، ذلك الشاب الذي تحدث عنه أهل المدينة باستمرار، فؤاد الشاب اللطيف في مقتبل العشرين من عمره الذي سقط في قناة مائية تربط النهر بالمحيط، وحيداً في ليلة مظلمة بعد أن أنهى عمله وجلس على حافة القناة يفكر بكل شيء وينسى كل شيء، يشعر ببرودة غريبة قبل أن يدفعه أحدهم إلى الماء، فؤاد الذي لا يجيد السباحة، غرق منذ عشرة أعوام إلى الآن قصته على كل لسان، لتحذير الأطفال من الاقتراب من النهر، ومن العودة ليلاً، ومن أن يكونوا لطفاء، لأن اللطف هو أول علامات المغادرة.
والفتاة التي عادت ومعها علبة البيتزا بعد أن أعطت كل القطع لفتاتين في طريقها ليلاً إلا قطعة واحدة لأنها كانت قد عضت لقمة منها ليسرق شخص ما حقيبتها دافعاً إياها نحو الماء وهي متشبثة بعلبة البيتزا كأنها طوق نجاتها، لم تأكل الفتاة لقمة أخرى بعد تلك اللقمة ولم ترى الشخص الذي دفعها، كانت تغرق وتغرق تنظر إلى القمر الذي أنار لها عتمة القاع لتجد أنها سقطت على هيكل عظمي يداه ممدوتان نحو السماء، كم كان يتوق للنجاة أو للقمر لن يعرف الجواب سوى فؤاد نفسه، كم حاولت الخروج إلا أن تلك البرودة نالت منها أيضاً ووجدت نفسها غارقة بين يدي فؤاد، وعلبة البيتزا بجانبها فُتحت وبدأت بالارتفاع نحو السطح إلا أن يد فؤاد العظمية سقطت على العلبة ومنعتها من النجاة دون صاحبتها، وهكذا كان مصير الفتاة التي عرفت من هو فؤاد ولم يعرف يوماً ما اسمها أو من تكون، علمت أن فؤاد كان يشعر بالوحدة وبالخيانة ربما، هذا الشاب اللطيف الذي ستظل قصته المأساوية تروى كنوع من التراجيديا وقصص التخويف للأطفال، وربما أسطورة النهر فيما بعد، والآن هذه الفتاة ستشاركه هذه التراجيديا، لن تروى قصتهما كقصة مخيفة بعد الآن، من سيعثر على جثتهما سيظن أنهما عاشقان أحبا بعضهما حبّاً لن يعرف قصته إلا الماء والقمر، فؤاد الذي رأى الحياة التي ضاعت منه في عيون هذه الفتاة التي تمسك بها كما لم يتمسك بالحياة، وهي التي عرفته وعرفت مصيرها بجواره، المصير الذي حاولت الهرب والنجاة منه ولكنها لم تُفلح كما لم يُفلح فؤاد.
- تذكرتُ كل شيء.. يا للبؤس.
- أجل يا للبؤس، ولكن أتعلمين عندما رأيتك تغرقين باتجاهي عرفتك، صحيح أنني لن أعرف اسمك أبداً ولكنني عرفت أنك أنتِ التي كنت أنتظرها طوال الوقت، ورغم موتي شعرت بدفئك، لذلك أقسمت ألا أبرح جانبك مهما تدافعتنا هذه التيارات، سأعرفك مهما تغيرت الأحوال، فوق الماء وتحت الماء، وبعد ألف سنة.. ستتحللين على صدري وتصبحين قطعة مني، لن أبرح جانبك مهما طال هذا الموت.

لا تحزن على الفتاة أو حتى على فؤاد فكلاهما يعيشان أجمل القصص تحت الماء، على الأقل أجمل مما كانا يعيشانه فوق الماء، ففي مرحلة ما ستكون أنت الميت التالي على هذه الأرض.

وجومحيث تعيش القصص. اكتشف الآن