ليانْ ، أبلغَ منْ العمرِ عشرينَ عاما ، وأعملُ بورشةِ خياطةٍ ، أسكنَ في السكن التابع للورشة وهوَ موجودٌ بحارُه منْ حارات وسطِ البلدِ .
لا أخفي عنكمْ أنني غيرُ راضيةٍ عنْ تلكَ الحياة ؛ فلطالما أردتُ أنْ أعيشَ في طبقةٍ أغنى وبيت عائلة كبير ؛ فقدْ عشتُ بملجأِ بعدَ أنْ ماتتْ جدتي التي كانتْ ترعاني . . . لا عليكمْ ، لقدْ مرَ الأمرُ ، لدى عملاً واليومِ هوَ الأكثرُ إرهاقًا ، وقدْ استيقظتْ متأخرةً بحواليْ ساعتينِ ، والمياهُ منقطعةٌ منذُ حواليْ ساعتينِ أيضا ! وبأية حال ، كلُ شيءِ هنا قدْ انتهى عمرهُ الافتراضي ؛ فالحوائطَ متشققةٌ ودهانها مُتساقط ، والأثاثُ لمْ يتغيرْ منذُ قدومِ حملةِ فريزرْ إلى مصرَ !
وكما يقولونَ لنا : " ميزانيةُ هيئةِ الشئونِ الاجتماعيةِ لا تسمحُ بتجديدات " ! وأيضا ميزانيتي الشخصيةُ لا تسمحُ ؛ فكلُ ثروتي تبلغُ 800 جنيهِ شهريا ، والإضافيَ يكونُ 400 إذا عملنا لساعاتٍ إضافيةٍ مشغلي ليسَ ببعيد عنْ منزلي ، لكنَ حافلةَ النقلِ العامِ تفي بالغرضِ حتى لا أصل إلى هناكَ بعد ساعةٍ كاملةٍ منْ المشيِ . الشمسُ ساطعةً ، والطقسُ شديدٌ الحرارةِ ، والرصيفُ ملءُ بالمنتظرينَ أمثالي .
وبعدُ ربعِ ساعةٍ كاملةٍ ظهرتْ الحافلةُ على مرمى البصرِ ، ثمَ اقتربتْ شيئا فشيءِ إلى أنَ توقفتْ أمامنا وصعدَ الركابُ بعدَ أنْ تدافعوا في زحامٍ كبيرٍ ، وبعدٌ رحلةِ كفاحٍ ظفرتْ بمقعدٍ بجانبِ النافذةِ كما أحبَ ، يعتبرَ ذلكَ أولَ شيءٍ جيدٍ حصلَ لي اليومِ حتى الآنَ ، وحتى أزيد منْ حلاوةِ اللحظةِ أخرجتْ منْ حقيبتيْ كتابا أقرأُ فيهِ منذُ ثلاثةِ أيامٍ ، يحكي عنْ الأبعادِ الأخرى والأكوانِ المتوازيةِ ؛ فأنا مفتونةً بتلكَ العلومِ ، لقدْ قاربتْ على إتمامِ الكتابِ فهوَ مستعارٌ منْ مكتبةٍ جاري (مازن) الذي يملكُ مكتبةً لبيعِ الكتبِ ويقومُ بخدمةٍ منْ لا يتحملونَ أسعارُ الكتب الباهظة ؛ فهوَ يقومُ بتأجيرِ أوْ إعارةِ الكتبِ بمقابلٍ ماديٍ زهيدٍ وكلما قلتْ المدةُ قلَ المبلغُ ، واليومُ هوَ آخرٌ يومٍ لتسليمِ الكتاب ، وهذا كلُ الوقت الذي لديَ حتى استراحةِ الغداءِ في السجنِ . . . أقصدُ الورشةُ . ولمْ أصححْ أصلاً ؟ ! هيَ أشبهُ بالسجنِ فعلاً ، قدْ تظنونَ أنني أبالغُ لكنْ تلكَ هيَ الحقيقةُ ! آااخْ . . . لوْ أنني الآنَ أستطيعُ السفرُ إلى تلكَ الأبعادِ وأغيرُ حياتي البائسةَ تلكَ . . . ! لكنَ الأمرَ ليسَ بهذهِ السهولةِ ؛ فهوَ بينَ فرضيةً منْ خيالِ بعضِ العلماءِ وبينَ أنهُ يحتاجُ إلى إمكانياتٍ عاليةٍ ومكلفةٍ ؛ فباتَ الأمرُ أكثرَ تعقيدا بالنسبةِ لي ، لكنَ حلمي ما زالَ موجودا ، أنا حاليا اقرأْ لكنَ شغفي يتخطى القراءةَ ، وللأسفِ الشديدِ لمْ أجدْ ما يحققُ أمنيتي بعد ؛ فليسَ لديَ الإمكانياتُ أوْ العلمِ الكافيين لتحقيقهِ ، مؤخرا كنتَ قدْ نسيتُ الأمرُ تماما وانصهرتْ بحياتي حيثُ إنني أعملُ قرابةُ ستِ عشرةَ ساعةً ، منْ يمكنهُ أنْ يفكرَ بموضوعٍ معقدٍ كهذا في ذلكَ العددَ منْ الساعاتِ ! مسافةَ الطريقِ لا تتجاوزُ الساعةُ إلا الربعَ ، أيْ أنها العاشرةُ الآنَ ؛ لملمتْ أغراضي وحقيبتي وكتابي ونزلتْ منْ بابِ الحافلةِ أمامَ المقبرةِ . . . أعني المشغلُ ! وكلتاهما متشابهتانِ ؛ فالورشةَ منْ الداخلِ أشبهَ ببيوتِ الرعبِ أوْ البيوتِ المهجورةِ لأنها قديمةٌ جدا ، وحوائطها أشبهَ بجدرات المعارضِ التشكيليةِ منْ كثرةِ تقشرِ طبقاتِ الدهانِ !
بالطبعِ أنا متأخرةٌ ، كلهنَ الآنِ مشغولاتٍ في عملهنَ وقدْ رفعَ دفترُ الإمضاءِ إلى عرينٍ . . . أقصدُ مكتبُ مديرتي سوسنْ ؛ فهيَ منْ ذلكَ النوعَ الذي مهما كنتُ طيبا أوْ ملتزما بعملكَ فستهاجمكْ على أيةِ حالٍ ؛ فلا تأمنُ لها جانبا أبدا ! طرقتْ البابَ باحترامٍ وأذنتْ لي بالدخولِ ، وما أنَ رأتنْ أمامها حتى رمقتني بنظرةٍ ثمَ مصمصتُ شفتيها وعضتْ علي علقها غيظٌ منيَ !
سوسنْ : وما حجةُ تأخركَ اليومِ ؟
تنهدتْ وابتلعتْ ريقي ، ثمَ تحدثتْ إليها بنبرةٍ هادئةٍ حتى أكسبَ تعاطفها :" سهرتْ وأنا أعملُ على رسوماتِ التصاميمِ للمجموعةِ الشتويةِ الجديدةِ ، وغدا سأرسلها إلى قسمِ الفحصِ ليتمَ البدءُ في تنفيذها . . . " قاطعتني ثمَ أشاحتْ بيدها نحوي : " لا داعٍ فسوفَ أسندَ الأمرُ لغيركَ ، غدا تسلمَ التصاميمِ لقسمِ الفحصِ ، ولديكَ خصمُ نصفِ يومٍ ، وإياكَ أنْ تكرريَ الأمرُ ! "
ألمْ أقلْ لكمْ ؟ ! لقدْ سددتْ لي سوسنْ الآنِ لكمةً قويةً بعدَ أنْ هاجمتني وأنا لا آخذ حذري ، لكنْ لا يهمُ ؛ ففي جميعِ الأحوالِ كانتْ ستخصمُ لي ؛ فأنا صدقٌ لمْ أرسمْ حتى تصميمٍ واحدٍ حتى لأنني انشغلتْ بقراءةِ الكتابِ . . . أعلمُ أنني حقيرةٌ الآنِ ولكنْ هذهِ هيَ الحقيقةُ ، أنا لا أحبُ عمليٍ هذا ولا أطيقهُ ولكنني مضطرةٌ إلى الاستمرارِ بهِ ليتمَ تسجيلي في سكنِ الإقامةِ ؛ فأمثالي لا طاقةً لهنَ بتحملِ عبءِ مصاريفِ إيجارِ بيتٍ ، فلا أمانعُ بهذا العملِ إلى أنْ أجدَ طريقةٌ أستطيعُ بها أنْ أرى لأكثرَ شخصا أحبهُ في هذهِ الدنيا أنني موجودةٌ معهُ على نفسِ الكوكبِ . . .
آهٍ لحظة ! لمْ أخبركمْ ، لكمْ أنا حقٌ أحبَ جاري مازنْ لكنهُ لا يعلمُ ، ويعتقدَ أنهُ لنْ يعلمَ حيثُ إنني لمْ ألمحْ لهُ قطُ ولمٍ أظهرَ لهُ ذلكَ أبدا ، أعرفُ أنَ هذا قمةَ الحماقةِ لكني حقا لا أملكُ تلكَ الشجاعةِ ؛ خصوصا أنهُ ليسَ منْ محبي الكلامِ ، ورغمُ أنهُ دائمٌ القراءةِ ولكنهُ لا يتحدثُ حتى عنْ مواضيعِ الكتبِ التي يقرؤها !
عجيبٌ أمرهُ ، أحيانا أفكرُ وأتساءلُ ما إذا كانَ يبغضني مثلاً أوْ لا يجدني مناسبةً لهُ ، أقسمَ لكمْ أنَ أيا منْ تلكَ الخياراتِ أهونَ على أيِ امرأةٍ منْ أنْ يتمَ تجاهلها كليا ! بعدَ أنْ خرجتْ منْ المكتبِ اتجهتْ لعنبرِ الماكيناتِ حتى آخذٍ مكاني خلفَ إحداهنَ إلى حينِ قيامِ الساعةِ . . . أقصدُ إلى أنْ يأتيَ موعدُ الانصرافِ أوْ تلكَ الاستراحةِ القصيرةِ ، أهمَ قوانينِ العملِ هنا أنَ العملَ الكثيرَ يقابلهُ مالاً قليلاً ، وألا تسألَ عنْ استراحاتٍ إلا إذا كنتُ ذا مقربةٍ أوْ واسطةٍ مثلا !
نعمْ يا سادةً ، إنهُ الاستعبادُ الحديثُ والمعاصرُ !
دخلتْ إلى العنبرِ وسطَ أصواتِ ضجيجِ الماكيناتِ وحديثِ العاملاتِ المخلوطِ بأصواتِ صدى الصوتِ غيرِ المبررِ بمكانٍ صغيرٍ كهذهِ القاعةُ أوْ غيرها منْ قاعاتِ المعاملِ الخاصةِ بالحياكةِ والتفصيلِ ، لكنَ أغلبَ ظني أنَ ذلكَ بسببِ أنَ الأسقفَ هنا عاليةً قليلاً مما يحدثُ ارتداد لطبقاتِ الأصواتِ المختلفةِ محدثا بدورهِ صدى ، أيا كانَ ، أنا بكلِ الأحوالِ أبحثُ عنْ مكانٍ معينٍ ؛ فأنا دائما أجلسُ بجانبِ صديقتي حلا حتى نتمكنَ منْ التهامسِ والنميمةِ كلما سنحتْ لنا الفرصةُ !
أنت تقرأ
إكْسِير السَّعَادَة
Fantasíaرَحْلِه عَبَّر الْإِبْعَاد الْمَوَّازِيَّة بَحَثَا عَنْ الْحَيَاةِ المثالية