التهويدة الغريبة تصدح في المكان، كمن يغني للموت اغنية حزينة، متدرجة الكآبة، غريبة، وأغرب شيء فيها كان الضحك الخافت الممتزج مع البكاء الصادح مع الرياح في الخلفية.
كانت أغنية تغازل الهاوية تارة، وسكانها، ومن سيهوي إليها، تدعو اليأس واليائسين للسقوط نحو بعضهم، وتارة أخرى تهمس بروعة الحياة، بالمشاعر، وتتغنى بالألم، بالإختناق، بالشعور، ثم يغرق الصوت بصرخة تضخ احساسًا غريبًا، كمن يسقط، يهوي، بإرادته.
كانت شيئًا جنونيًا ينطق بصوتٍ غارق يناسب جنون المكان، وتتكرر، تتكرر لما لا نهاية.
وكان هو على أطراف الهاوية، يسمع دعوتها، همسها، وتناقض كلماتها، ينظر للبقعة السوداء اللانهائية تحته، بهدوء، يبتسم، كمن هو ممسوس تحت وطأة إغراء الدعوة.
من اعتاد على التحديق بالهاوية ستبتلعه، قيل.
وهو أمضى أشهرًا بين الهاوية والسماء، على الحافة، يحدّق، ربما ينتظرها لتبتلعه، أو ربما يفكر في شيء أخر أخفاه في نفسه عن نفسه.
" آستر! "
جاء نداؤها بصوت أعلى من أفكاره، من الهاوية، من مسّ الهاوية، التفت لها وكان أول ما استقبل ناظريه شعرها الأزرق المتوهج، النقيض التام لشحوبه هو، اللون المشرق وسط تدرجات الرمادي الكئيب خاصته.
تفتح شعور خافت في صدره حين حطّت عيناه على ملامحها، ابتسامته البلاستيكية المصنوعة بدقة احتوت شيئًا غير محسوس من الحقيقة، وجوفه الجاف ارتوى بالمشاعر التي بعثتها له، هي، ريڤا.
من اعتاد الخواء انطفأ، غير أن انطفاءه رتيب، لا يُلاحظه عادة حين يجلس مع أشباهه، نبضات قلبه المنتظمة تستمر، لا تختلف، ولا تختلج لا بحزن ولا بسعادة، حتى يأتي شيء يخرّب نظامها، يبعث فيه روحًا اخرى، قلبًا أخر؟ أم هو ربما قلبه قرر أن يتغير قليلًا، يضخ بعض الشعور مع دمه في جوفه، ويسحب انتباهه عن هاويته.
كأنه كان مختنقًا ثم تنفّس، غير أن المُختنق يُلاحِظ، وهو لا يفعل، حتى ينبهه شيء ما.
كانت هي، ريڤا، منبّه الشعور في صدره، ومن يذكره باستمرار بكم هو خاوي، وبكم الخواء لا يطاق، ومنتشلته من إغراء الهاوية، ومن نفسه.
نفسه التي أرادت إطفاء حُزنه وأطفأت سعادته معها.
كانت قادمة نحوه بابتسامتها المميزة، بعيونها المحنيّة استمتاعًا لا يُدرك سببه، وليس بالضرورة أن يكون له سبب، ريڤا غريبة الأطوار تستطيع التغني حتى بالألم، كانت ميزتها، وكان اختلالها، وكان ما أحبه فيها.
"أهلًا"
تجعله يتلفت للغيوم المتوردة والمزرقة المتدرجة نحو البياض أسفل قدميه، النقيض التام للحفرة السوداء بعد بضع خطوات لجانِبه، للريح الطفيفة التي هبّت تحمل معها وريقات بنفسجية، للبرودة الخفيفة في الجو تلامس خديه، كأن الحياة انبعثت من حوله فجأة، أو هي كانت موجودة، هو أبصرها الآن فقط.