الفصل الرابع
(انفلاق ديجور)
وميض الماضي بدأ بالظهور أمامها، شريطٌ اسود يلتف حولها فيزيد من اختناق انفاسها، عينيها اللتان تمتلأن بالدموع من آلام بدأت تشعر بها، وكأن بهذه الكلمة أعد مجددًا فتح جروح ظنت أنها أغلقتها ولكنها قد تجاهلتها!
تعجب عمران من صمتها، دموعها التي تزداد شيئًا فشيء، حاول الحديث متمتمًا:
_ زينة أنتِ كويسة؟!
حركت رأسها بالنفي، تردف قائلة بصوتٍ مرتعد:
_ ابعد عني.. مش عايزة حد يقرب مني تاني.. ابعدوا عني بقى...
سقطت مغشيًا عليها، هي تريد الهروب من الوقع ولم تجد حلًا سوى الاختفاء، ركض لها سيدات المصنع يحملوها، ثم وضعوها على الأريكة وبدأوا بإيقاظها وبالفعل استيقظت ولكنها كانت ترتجف بشدة، لا تريد البقاء، رأى السيد فاروق ما بها وقام بإعطائها اجازة ليومين كي تستعيد صحتها.
في حين بقى عمران يشعر بذهول لِمَ فعلت كل هذا؟ ما الذي حدث معها!
**********
بقيت زينة بالمنزل لا ترى النور، وحيدة بالشقة.. تصلي بكل دقيقة تدعو الله فيها أن يساعدها في تخطي ماضيها المؤلم، كيف ستخبره أنها لا تزال متزوجة وأنها هربت من زوجها!
وباليوم الثاني لها..
استمعت لصوت الجرس نهضت من مكانها بتعبٍ شديد، تفتح الباب بإرهاق لتجد احدى سيدة المصنع تدعى صفاء، ابتسمت لها زينة قائلة:
_ ازيك يا طنط صفاء.. اتفضلي!
دلفت صفاء للداخل مجيبة:
_المصنع مضلم من غيرك يا بت يا زينة.. والله ليكِ وحشة حتى عمران حالته اليومين اللي فاتوا بقت زفت خالص.
غمزت لها بعينيها، في حين اشاحت زينة بوجهها بعيدًا، رفعت صفاء حاجبها ثم قالت:
_ على فكرة بقى الواد عمران جدع ومش هتلاقي زيه.. والكل يتمنى بس أن عمران يتجوز من اهل بيته عشان يناسبوه.
حركت زينة رأسها بالنفي متمتمة:
_ يا طنط أنا مش رافضة عشان هو وحش.. هو لسه ميعرفش عني حاجة!
ابتسمت لها صفاء بحسن نية قائلة بصوت مشجع:
_ طب حلو اتخطبوا واعرفوا بعض يا بنتي.. طب اقولك على حاجة عمران هو اللي اتفق مع صاحب البيت على سعر الشقة اللي هتسكني فيها.. وكمان خلى الراجل يجيلك يعرض عليكي وقت ما كنتِ بدوري على شقة!
حدقت بها في دهشة، تردف بحيرة:
_ هو عمل كده! طب ليه؟!
غمزت لها صفاء، تميل نحوها قائلة بمكرٍ:
_ عاشق يا بت.. وربنا بقى لما يرزق واحدة بعاشق يتمنى ليها الرضا ترضى.. عمران حبك يا زينة مضيعوهش من ايدك مش كل يوم واحدة هتلاقي واحد زي عمران دا.
صمتت زينة دون أن تتحدث، في حين نهضت صفاء قائلة بهدوء يحمل بطياته الحنو:
_ أنا هسيبك تفكري براحتك.. بس نصيحة من أم بلاش تختاري الوِحدة لو اللي فات صعب.. فاللي جاي مش زيه.. احيانًا بيبقى عوض للفات.
تركتها تلك السيدة وغادرت الشقة، في حين تشوش عقل زينة قليلًا من حديث صفاء، حتى حسمت أمرها بصباح الغد.
*********
سارت بخطواتٍ بطيئة تريد العودة ولكن لابد من المواجهة، وقفت أمام المصنع تدلف للداخل، وما أن تقدمت خطوة حتى وجدت عمران يلتهمه القلق، يتسأل:
_ أنتِ كويسة؟!
حركت رأسها في إيجابية، تردف بتوترٍ:
_ الحمدلله.. بس كنت محتاجة اكلمك بموضوع!
اومأ برأسه، ثم قال بهدوءٍ:
_ طب هروح استأذن الحاج فاروق واجي!
انتظرت زينة جانبًا حتى ينتهي وبالفعل أتى عمران، يقول بلهجة بسيطة:
_ تحبي نقعد فين نتكلم!
:_ أي حتة فيها ناس.. واعتبر المرة دي هي رد على طلبك.
شعر عمران بالريبة، ولكنه قرر أخذها لكافية بالقرب من الكورنيش كي يجلسوا به، وما أن وصولوا حتى قالت زينة قبل أن يتحدث عمران:
_ أنا اسمى زينة.. خلصت دراسة ثانوية ووالدي خرجني من التعليم رغم إني جبت مجموع حلو، بعدها بكام سنة لما بقى عندي اربعة وعشرين سنة جه واحد يتقدم ليا.. وللأسف كنت واقفة بسمع بابا وهو قاعد معاه، هو مكنش بيتقدم دا كان بيشترني من والدي أو اللي مفروض والدي وباعني ليه ب١٠ ألف جنية.. اتصدمت من اللي ابويا بيعمله بس قولت مش مهم مش عارف يصرف على اخواتي وجوزني كده عشان يصرف عليهم.. واتجوزت واحد أسمه سمير.. سمير دا من أول يوم ليلة فرحي.. ضربني بكل قوته كنت لما اصرخ بيستمتع.. مكنتش فاهمة هو أنا ليه بضرب ولا ايه اللي بيحصل معايا.. بس من ضربه أغمى عليا وتاني يوم صحيت.. جسمي متشوه تمامًا من الضرب وغرقان بدمه.. رنيت على بابا اشتكي ليه يلحقني بس قفل السكة في وشي وقالي لو فكرتي تيجي تغضبي ولا حتى ازوره هيطردني! متخيل ان في أب يعمل كده في بنته.. فضلت مع سمير دا كام شهر كل أربع اضرب نفس الضرب لأن دا يوم اجازته واتعب و اصرخ وأمه تسمعني وتقولي استحملي.. وتعايرني إن أبويا باعني بالشكل دا ولما قولتلها حقيقية ابنها إنه مش سوي... كان بمعنى أصح سادي.. قالت عادي عيشي زي ما جوزك عايش وحبي اللي بيعمله..
قالت تلك الكلمة من بين دموعها، تحاول استجماع قوتها بعدما أصبحت حياتها مدمرة، روحها تتلوى من الألم، في حين ضرب عمران بيده قائلًا:
_ دي ست مش طبيعية!
مدت يدها تزيل دموعها مكملة:
_ لحد ما في يوم ضربني جامد لما مرضتش اسمع كلامه ونزفت جامد وأغمى عليا.. وخاف وقتها ووداني هو وأمه واخته المستشفى وطلعت حامل وابني مات من العنف اللي اتعرضت ليه، مكنتش قادرة اتحرك وفضلت اصرخ وانهارت ودكتورة ادتني مهدئ، بس هما كانوا عايزين يخرجوني من المستشفى واخته منعتهم لأنها مش راضية عن اللي بيعمله فيا.. وهي هربتني من المستشفى حكومة اسمها **** وركبتني تاكسي.. اخدته وقولتله نزلني الدائري.. مكنتش لقيه مأوى.. ابويا لاء.. وهربانة من جوزي.. نمت في الشارع بس حتى دا مرحمنيش ولقيت واحد سكران كان.. كان
أغمض عمران عينيه بألم، يردف بكلمة واحدة:
_ عمل فيكي حاجة؟
حركت رأسها بالنفي تجيب من وسط دموعها:
_ لاء الحمدلله.. فوقت وضربته على دماغه بأزازة وجريت وفضلت في الشارع بس عيطت جامد لأني مش لقيه مكان أبات أو أكل فيه.. لحد ما جت ورقة من كتاب على وشي فيها قصة سيدنا يوسف حسيت أن دي رسالة من ربنا ليا.. قومت وكملت طريقي اسأل على شغل لحد ما لقيت المصنع.. والباقي أنت عارفه.
صمت عمران قليلًا، ثم قال بنبرة جامدة:
_ يعني أنتِ لسه على ذمته؟!
انزلت رأسها في خزى، في حين نهض عمران يردف بصوتٍ خالي من أي تعبير:
_ يلا عشان تروحي.
سارت زينة معه، ولكن تحمل آلام فاقت كل شيء، ماذا أصبحت بنظره، هل يراها فتاة سيئة ولكنها ليس لها ذنب بهذه القصة!
*********
مر يوم.. اثنان.. ثلاثة.. اسبوع.. فأكثر لم تقابل عمران، فقط تأتي للعمل ثم تغادر، تتمنى رؤيته ولكن لم يعد هناك نفع، ابتسمت ساخرة على احلامها وهي مراهقة من أن تتزوج رجل يصبح درعًا لها والآن أصبح والدها هو من يكسر ظهرها وزوجها يقتل روحها.. والرجل الوحيد الذي تمناها بالنور أندثر مع امنياتها الضعيف.. هي تعترف أنها أحبت اهتمامه بها، طريقته في المراقبة سرقة.. نعم تراه وتعلم وكانت تحب هذا.. أن يختلق أي موضوع أو عمل كي يحدثها به، هي فقط اردات أن تعيش كما كانت ترى باقي النساء يعشن.. دائمًا تسمع عن حلا الحب.. وكانت تشتهيها مثل الحلاوة ولكنها لم تتذوقها.
********
كانت تجلس على ماكينتها، تحاول ضبط هذه القطعة من القماش، حتى غطاها ظل، رفعت بصرها لتجده عمران، عادت ببصرها للأسفل مرة أخرى دون أن تحدثه، في حين أبتسم عمران يتمتم وهو يمد يده ببعض الأوراق:
_ روحت المستشفى اللي كنت فيها والدكتور حنان دورت عليكي كتير عشان تقولك إنك ممكن تتطلقي وتسجني جوزك دا وعملت تقرير يثبت كل حاجة واهوه التقرير.. تقدري تاخدي حريتك يا زينة.
تأملت زينة الملف، ثم امسكته بيدٍ مرتجفة ترى ما به وبالفعل وجدت ما يثبت ما تعرضت له، اكمل عمران بنبرة حنونة:
_ مش هسيب حقك يا زينة.. مهما حصل.. الإنسان مش بيلقي راحته مرتين.. وأنا راحتي معاكي..
زحفت البسمة على ثغرها، في حين أكمل عمران قائلًا:
_ أنا ليا صاحب يا زينة محامي.. ممكن يرفع القضية لو أنتِ عا...
:_ عايزة اسجنه واخد حقي وحق الايام اللي شوفتها منه.
قالتها بصوتٍ مختنق، في حين حرك عمران رأسه واتفق معها على موعد كي يذهبان للمحامي وتبدأ رحلة انتهاء هذا الظلام من حياتها.
********
مرت خمسة أشهر كان عمران يذهب بكل يومٍ يتابع القضية، في حين كانت زينة تدعو الله بكل يومٍ أن ينتهي كابوس سمير ووالدته... وبالفعل تم القبض على سمير بشهادة الطبيبة حنان، وتم الطلاق بين زينة وسمير.
*********
:_ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
قالها المأذون وهو يرفع المنديل، في حين ارتفع صوت الزغاريد من حول زينة التي تبتسم بسعادة، وعمران المتأمل لها.
انتهى وقت الحفل ولم يتبق سوى عمران الذي جلس بجوار زينة مرددًا بشوقٍ:
_ اخيرًا بقيتي حلالي.
ابتسمت زينة بحرجٍ، في حين وضع عمران يده فوق رأسها يقول دعاء الزواج ثم تختتم بعد الدعاء:
_ ربنا يقدرني وأكون ليكِ العوض الحقيقي... وسبتلك مبلغ في الوديعة محترم خاص بيكِ ويكون ليكِ مهر.
نظرت له زينة بحبٍ، ثم قالت:
_ كفاية إنك تعاملني بما يرضي الله.
أمسك وجهها يقبل جبينها بحبٍ قائلًا:
_ وأحنا بنكتب الكتاب عهدت ربنا إني اعملك معاملة يرضاه الله ورسوله.. وبدعي ربنا اني اوفي بعهدي لأخر يوم بعمري يا زينة.. وتكون أسعد زوجة بالدنيا.
اختتم كلامه واختتم ليلته برحيقٍ من الحب، أصبحت الحياة أبسط، أتى عوضها بلحظةٍ وتدبر أمرها فثانية، وانتهى كابوسها بشهورٍ لم تتخِل بيومٍ إنها ستنتهي، توقعت أنها لن تحب مجددًا ولكن الله أرد أن يطعمها من حلا الحب ولكن بطريقةٍ عفيفة يتوجها الحلال، فقد كانت تحمد الله بكل يومٍ أنها انتهت من هذا الكابوس وأنها رزقت بعمران هذا العاشق الذي لم يتخل عنها أبدًا.
وضع الله بقلبه حبًا لها، فأصبح مثل هذه النسمة البارد التي تأتي وسط الصيف فتنعش الانسان وتعيده من جديد للحياة.
انتهى هذا الظلام من حياتها وانفلق، حتى ظهر نور يملأ حياتها.. فلم يكون هناك عنوان انسب من...
انفــــلاق ديجـــور.تمت بحمد الله.
#9/8/2023
أنت تقرأ
انفلاق ديجور
General Fictionالمقدمة.. عزيزي القارئ لا داعي للمقدمات.. دعنا نبدأ بأحداثٍ لن تتوقع أنها واقعية ويمكن لإنسان أن يتحملها...