غبار بِلَوْن الماء

583 13 0
                                    

غبار بِلَوْن الماء

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

غبار بِلَوْن الماء






تأليف
حسين عبد الحسن محسن







انتظر المطر

يا من تبحث عن رائحة تستحضر بها ذكرياتك انتظر المطر ،
يا من تبحث عن غرق فوق الأرض بحيث لا يجذب انتباه الآخرين انتظر المطر ،
لن يطفئ المطر سيجارتك فلا تصحب معك مظلة .
حاولتُ أن أُشفى ولكن دونما جدوى ،
فهذا الألم مثل سكير يبحث عن حانة لا يعرفه أحد فيها ، فاختارني حانة له ،
أُقدِّم له أيامي شرابًا ،
ينشط وعيي كلما خمل وعيه ،
تأخذه نشوة السُّكْر فيعترف مرددًا اعترافي ،
إذا كنت تبحث عن حانة لا يعرفك أحد فيها انتظر المطر .
أتمشى في الليل وحيدًا باحثًا عن جثة المطر ، من قتل المطر ؟
نزلَت بعض الغيوم لتبحث معي عن جثة المطر ، من قتل المطر ؟
ارتجلَت غيمة دمعة وارتجلَت سيجارتي دخانًا وكتبنا قصيدة قديمة عن المطر .
لا تعدّي لي القهوة ،
نافذتي متعبة من النوم والسهر .
وقت المغيب ، حين التقينا مصادفة حتمية أنا وخفاش أفزعته وأفزعني وارتطم صداه بصداي واختبئنا في جحر معًا .
أعطيتُ سكاكري لطفل مشرد وبكيتُ حتى توهمتُ نبض الساعة قد توقف ،
فأعاد لي السكاكر ظنًّا منه أنني أبكي على فَقْدها ، هو مشرد لأنه ليس لديه عائلة ،
وأنا مشرد لأن لدي عائلة .
صاح الليل خلفي توقف ،
وبسرعة غمستُ ريشة من جناحي في حِبْره وكتبتُ على الهواء وداعًا بحجم القمر .
اختبأَت مني في أحضاني ،
لا أعلم كيف علمَت أنه المكان الوحيد الذي لن أجدها فيه ؟
نزيف بارد كغبار مجمَّد يدون سيرة ذاتية لضحية لم تبتدئ بعد .
كم مضى علينا من الحُبّ ؟
قيلولة أهل الكهف .
رقصنا سويًّا ثم افترشنا الأرض ،
هي نامت على يدي اليسرى ونام الهواء على يدي اليمنى وعندما استيقظتُ سحبتُ يدي من الهواء بلطف لأنها خَدِرَتْ .
كم مضى علينا من الذاكرة ؟
زمان ومكان لا يمكن وصفهما سوى بالحدس . أين كنت ؟
كنتُ تحت ظِلِّي مختبئًا من حرارة الشمس .
هذا واقعي الذي أضفتُ له من خيالي ومن مثاليتي صِوَرًا لا نهائية ،
بحيث لم أعد أُميِّز بين الخيال والواقع ،
أمسى كلاهما عندي كمرآة تريك صورتك من أمامها ومن خلفها .
أين كنت ؟
كنتُ في المكتبة أقرأ وجوه القُرَّاء وأتحسر على المؤلفِين ،
تمنيتُ هذي المكتبة كهف يحرسه تنين ،
هناك غموض عدمي في الخَلْق والتكوين ،
لماذا يقرأ مثل هؤلاء ؟
أية أقدار تهكمية ترسلها السماء ؟
أين كنت ؟
كنتُ أَقصّ حكاية على الحكاية ذاتها ،
أعترف لها وتعترف لي بأن كلانا لا يصلح موضوعًا لأي حكاية .
أين كنت ؟
كنتُ في المسرح أُمثِّل مع البطل دور البطل وأعود إلى المنزل لأسرق من أخي الصغير سيفه الخشبي ثم أُعلن الحرب وأطعن المرآة . أين كنت ؟
كنتُ أمامكِ وورائكِ وعلى يمينكِ وعلى شمالكِ وفوقكِ وتحتكِ ،
كنتُ في كل الاتجاهات لذلك لستُ أدري أين كنتُ ؟
هربتُ من فرديتي ومن شموليتي ،
هربتُ من أكبر مصحتَين عقليتَين ،
ولكن لسوء حَظِّي أني تعثرتُ وسقطتُ أرضًا والتهمتُ من جزعي التراب ،
في النهار تطاردني المدن وفي الليل تطاردني الكلاب ،
كُفِّي عن استجوابي ،
كُفِّي عن العتاب ،
إن كنتِ ترين فِيَّ ما تراه الإناث في الذكور فما أنصفتني ،
فأنا وحقكِ محموم بفكرة أن أُمرِّغ أنف الذكورة والأنوثة في التراب .
شممتُ جذورًا طالعة لنبتة ذبولها مصقول وساطع يعكس ظِلّه وأشعة الشمس ،
كانت رائحة التربة أبرد من ظلام بحيرة في الشتاء وأبرد من ذكريات قطعَت شرايينها من بديهية الأمس .
سألتني امرأة ضاع منها طفلها ،
كان نادرًا جدًّا على حَدّ قولها ،
كم أطنبَت في وصف ملامحه الإلهية وكم أسهبَت ،
أي بكاء بكت وأي لطم على وجهها لطمَت ، ومن هول عذابها شقَّت ثيابها ،
هَدَّأتُ من روعها وقلتُ لها : لابد أن نجده ، بحثنا معًا لبرهة قصيرة وسرعان ما أبدت ملامحها شهوة وعلى الفور اختلت بي وراودتني عن نَفْسي وجامعتني ،
ربما لتنجب طفلًا نادرًا آخر وتريح نَفْسها من عناء البحث .
مللتُ وجوه الحزانى فاعذروني أو لا تعذروني إذا قهقهتُ في موقف يستوجب البكاء .
أيها الحزن يا جسدي الذي لابد أن أُلقيه يومًا في التراب وأرحل ،
أيها الحزن أتدري ما فعلتَ ؟
كم ضحكة بريئة بيضاء ملهمة وكأنها قمر يطلّ من شرفته على قمر ،
كم قمرًا أخفيتَ ؟
أيها الحزن أتدري ما فعلتَ ؟
بتلك التي : الريح ساكنة لكن شَعْرها من طراوته يرفّ على الكتفين منسدل ،
بخديها ذبول كمرآة مُصَقَّلة بحيث أُسابق الشفتان للقُبَل ،
لها وقع ذكرى تحنطني خلودًا فلا تكاد تميز بين الزهر والطلل ،
أيها الحزن أتدري ما فعلتَ ؟
على جناحيكِ احمليني ومُرِّي بي على حفيف الشجر ،
كأني ولدتُ لكي أُحبكِ ،
حلمتُ بأني حبيبكِ فهلَّا حلمتِ بأني حبيبكِ ،
وإن طالبتني الأنانية بممتلكاتها فحلمي ما عاد حلمي ،
وحُبِّي لكِ ليس ملكي ،
فأنتِ وأنتِ ،
أما أنا فلستُ سوى وسيط عابر ما بين أنتِ وأنتِ ،
احمليني على جناحيكِ فأنا من عائلة السنونو ، جميع أعشاشي أبنيها في محطة القطار .
حتى متى أطارد الشمس في مغيبها وأتجسس على الوقت جهرًا وأشرب شاي الصباح مساءً أمام نافذة تُرْخَى المشاهد خلفها كالستار ؟
كأنه عناق في بحيرة أقل كثافة من صمتها ، تعانقنا ولم نُحدِث موجة ولا أثرًا من قطرة سقطَت رغم ارتعاشاتنا فيها فكم سكرَت وكم عربدَت .
إلى أقصى الجنوب هربًا من عيد ميلاد مفاجئ أو وباء لا يبلغنا المنية دفعة واحدة ،
لا نريد أن نموت ،
ستنمو الأزهار ولن نراها ،
ستذبل الأزهار ولن نراها ،
ستكبر فراخ أبو الحناء ولن نراها ،
سيحل الصباح ولن نراه ،
أيتها الشمس يا أُمّنا أشعتكِ كلاب صيد تطاردنا ، وما سجدنا لكِ إلا لكي نخبئ وجوهنا عنكِ ، أشعتكِ أصداء نار عابثة ،
أطفأنا حريقًا صغيرًا في عتبة كهفنا هنا ،
وهناك أُناس أسفل الوادي يهربون بلا عودة من صدى الأجيج ،
هي آخر الأمنيات ،
هي أرملة الجلوس أمام النافذة ،
أيتها الشمس يا أُمّنا سنرحل إلى أقصى الجنوب ومعنا طيور تركَت بيضها في أعشاشها أمانة لديكِ فاحضنيها بدفء ريثما تفقس .
حين يحالفنا الحظ لا تحالفنا أقدارنا وحين تحالفنا أقدارنا لا يحالفنا الحظ ،
رأينا شِبَاك تردد مع الريح خيبتها إلى أن تكورَت على نَفْسها واصطادت ثقوبها ،
قال الذي يَحلُم لمن لا حُلْم له :
هل التقينا سابقًا ؟
وكأنني أعرفك ،
فردَّ عليه قائلًا :
لستُ أدري يا صديقي ،
يا أخي ، يا توأمي في الزمن والروح والذاكرة ، لستُ أدري ،
ولكن إن شئتَ استحضرتُ ذاكرتي وأَوَّلتُ أحلامكَ .
قطرس جوال ،
يزرقّ الماء أكثر ،
تتثاءب الزوارق في الجنوب ،
الأحصنة المجنحة التي تنسلّ من رموشها والأقدار التي تعقدها حواجبها ،
وصوت يرنّ كأنه جرس سماوي ،
لا وجه للريح ولا وجهة ، فكن كالريح . وجلستُ أنتظر ،
ومرت من أمامي ذكرياتي وكأنها طفل تاه في غابة وقد حَلَّ الظلام ،
وجلستُ أنتظر ،
هل سمعتَ مثلي صوت الدخان ؟
هل سمعتَ مثلي صوت ارتطام الفراغ بالفراغ ؟ أستلقي على الرصيف ،
وسادتي ثِقْلٌ أحسّ به تحت رأسي ،
يعبر من فوقي العابرون ،
يضعون نقودًا في قبعتي وينصرفون ،
أصرخ ورائهم :
لستُ متسولًا كما تعتقدون ،
أرمي نقودهم مع القبعة خلفهم وأعود أستلقي على الرصيف ،
وفجأة أهمس في نَفْسي :
في انتظار من أنا ؟
وما الذي أتى بي إلى هنا ؟
أنهض من مكاني وأصرخ :
انتظروني أيها العابرون .
رقصات ابتهاج مصدرها نفحة من نفحات مكاشفة الدعاء ،
طرب خفي يتسلل من أسفل الباب إلى وحيد في غرفته الظلماء ،
تُزاح الستارة عن الشُّبَّاك من تلقاء نَفْسها وتبدأ بالرقص ،
ويرسل القمر نوره إلى الغرفة كعرائس هبطَت من الجنان محمولة على أجنحة الملائكة ،
فتسجد لله سجدة عشق لا يضاهيها شموخ ولا كبرياء ،
وكأن الجبال في طياتها تُنْدَف كالقطن خشوعًا وتلبسها رداء .
وأتيتُ أسأل عنكِ في المحلة دونما سؤال ،
هذا هو منزلها ، قلتُ في نفسي ،
ابتسمتُ وابتسمتُ ولولا خوفي من أن أجذب الأنظار لبكيتُ وبكيتُ ،
أخشى أن أطرق الباب ولا تتذكر مني شيئًا سوى ملامحي ،
أخشى أن أطرق الباب وأسمع صوتًا غريبًا عَلَيَّ يقول من الطارق ؟
أخاف أن تفتح لي الباب وأتعرف عليها وتتعرف عَلَيَّ ولكن لا نتعرف على ذكرياتنا ،
بالنسبة لي كتبتُ عن كل قُبْلة قبلتها قصيدة ، أستطيع لو رأيتُ خديها أن أُذكِّرها بموضع القُبْلة فوق القُبْلة أين مكانها بالضبط ،
ولولا خوفي أن تخاف ذاكرتي لذكَّرتها بالكلمات مطابقة حرفية لِنَفْس الشعور الذي اعترانا عندما تعانقنا . يا من لا تنتظر شيء ولا ينتظرك شيء انتظر المطر .



غبار بِلَوْن الماءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن