يومان، وسنعود...

7 1 0
                                    

"شيماء قومي قومي جهزي هدومك ابوي قال حنمشي سوبا" هكذا ايقظتني "مروة" بعد سويعاتٍ نمتها.. نمت كما لم انم قط، وددت لو أنها استمرت قليلاً بعد، كان نومي قليلاً جداً في الأيام الماضية، بالطبع لست وحدي، كان هذا حال الجميع. كنا نغفوا دون قصدٍ عند اتكائنا على "الكنبة" بعد أن تملكنا التعب والإرهاق، أو بعد أذان الفجر ليتم ايقاظنا الساعة السابعة او السابعة والنصف تماما على اصوات الرصاص والمدافع. هه! من المضحك أنه لم يلتزم السودانين بمواعيدهم... لكنهم ها هنا لم يغفلوا عنها، ربما هذه من عجائب الحرب...

أفتح عيناي و أحاول استيعاب حديث مروة لي، والجميع من حولي في حالة هرجٍ ومرج، من فرط عبثية الحركة لا استطيع وصف الأمر بتسلسل، لكن باختصار كان الجميع يركض هنا وهناك، يختارون بعض الملابس، او يفصلون الثلاجات لنقوم بتفريغها، نجمع كل شيء قيم في غرفة واحدة لنوصد عليها، نبحث عن حيواناتنا الاليفة(التي انتها امرها متروكة خلفنا)... كانت الكهرباء منقطعة، وبالطبع جميعنا صيام... كان كما يقولون تماما "أحلام العصر"...

كنت واقفة اتجاذب اطراف الحديث مع احدى أخواتي بعد أن هدأنا قليلاً، عند الباب الفاصل ما بين "هول المعيشة" الداخلي و"البرندة" الخارجية، لا أذكر مضمون المحادثة ناهيك عن تفاصيلها... لكنني أذكر تماماً صوت الطائرة عندما اقترب كثيراً من المنزل، لوهلة اعتقدت أن قذيفةً ساقطةً علينا لا محالة، وبصورة لا ارادية اخذت "ومضة" ابنت اختي بين ذراعي واحتضنتها، الله وحده يعلم كم كنا نحاول أن نبدو صامدين أمام الأطفال حتى لا يخافوا، لكن في تلك اللحظة خانتني رباطة جأشي، كانت "ومضة" تشعر بتوتر البالغين من حولها، مهما حاولنا أن نربطه بداخلنا يجد طريقةً ليتحرر خِلسة، وبين الفينة والأخرى كانت تُعبِّر عن هذا الشعور بأسئلة بريئة (نظرة مرتابةٌ و مرتعدة... "في شنو!" .. "ده شنو؟" ... الخ) ... أما "رندة" فكانت أقل استيعاباً لما حولها نظراً لصغر سنها، ولكنها كانت مهتاجةً بعض الشيء.
بالطبع أخواتي وبنات خالي ليسو كباراً بعد... أنا حقاً معجبة بكم كانوا كباراً في تلك اللحظات العصيبة، كانوا صامدين رغم صعوبة الموقف... فهو وبأي حال كان أكبر منهم.. بل كان أكبر منا جميعاً، كل ما في الامر أن الفارق يتناقص بين هول الأمر و عمر المرئ كلما زاد، تناسبٌ طرديٌ كما ترى. لم تكن الحرب يوماً مناسبةً لأحدهم، كم كان عمره أو حجمه أو جنسه، إنها لم ولن تناسب أحدهم، متى ما وقعت وأينما حلت...

اكتشفت بعد مدة أن الخيار الأول كان البحث عن شقة في الأحياء الداخلية ل"أركويت" لنقوم بايجارها عدة أيام، فلا بد لهذا الوضع أن يحسم بعد أيام قليلة...هذا على حد توقعاتنا بالطبع. ارتأى والدي أن نترك المنزل لأنه قريبٌ من "شارع المطار" والذي بدوره تكثر فيه الاشتباكات العسكرية، وكانت "الدانة" المزعومة كما قالوا لي هي التي اقنعته بضرورة ترك المنزل. لذلك ذهب محمد وأبي للبحث عن شقة أو منزل في الاحياء المجاورة... الجميع ينتظر رجوعهم بخير...
لا أذكر متى عادا، ولكن عادا خاليين الوفاض. وتبقا أمامنا الحل الأخير، التحرك لسوبا.

سلمنا مفتاح المنزل ل"فضل الله" جارُنا، الذي لم يبدي نيةً للخروج من المنطقة! ، اوصيناه على حيواناتنا الأليفة.. تركنا الكثير من الأوعية المليئة بالماء في مناطق متفرقة، وتركنا نافذة مفتوحة حتى تتمكن القطط من الدخول والخروج. كان خياراً صعباً... لكن هي يومان أو أكثر بقليل وسنعود، ثم إن "فضل الله" متواجد فلا بأس... هكذا كنت اسكت ضميري...

أمام المنزل:
كانت العربات متوقفة أمام المنزل... أنت إركب هنا وأنت هناك وهكذا الى أن ركب الجميع... تحرك خالي "عاصم" ومعه "عمار" إن لم تخني الذاكرة... ذهبوا لمنزل جدي لإحضار بعض الأشياء وتأمين المنزل، ثم تأخروا قليلاً، تواصلنا معهم فقالوا أنهم يبحثون عن "مغلق" لشراء بعض الأقفال... الرب وحده يعلم كم كنا قلقين وقتها... كان كل تحرك مخاطرة كبيرة، وكل انتظار مخاطرة أكبر ... ولم تخذلنا سيمفونية الرصاص عن زيادة الأمر سوءً.
الجميع داخل العربات، لم يكن هنالك طريقة لخروج أحدهم .. لأنهم محشورون بعد ترتيب دقيق، كأنهم لعبة "بازل" أكملت تركيبها ولا ترغب في اهدار مجهودك فتبقيها كما هي وتنظر لها بكامل الرضا والشعور بالإنجاز.
كنت حرةً بعض الشيء لأني سأركب في السيارة التي كان بها مشكلة في "الدعامات الخلفية" فلم تُحَمَّل بالكثير... جلست في "مصطبة" المنزل أنظر للسيارات الواقفة أمام ناظري والمنزل من خلفي، التقط بهاتفي بعض الصور... لا شيء من هذا كان يبدو حقيقياً، لم يبدو صائباً، وددت لو أحشو المنزل داخل جيبي.. لا... بل وددت لو أننا لم نخرج قط.

تحركنا أخيراً ... الجميع مترقب، أتعلمون!... كنا نسير في الطرقات لا ندري أين نضع أقدامنا أو أي طريقٍ نسلك... كنا نسير فقط بتوكلٍ، داعين الله أن لا تَزِلَ قدم... كانت الطُرقات خاويةً وموحشة، كما لو كنا نقوم بتصوير فيلم عن نهاية العالم... وبين الحين والآخر كنا نرى أناساً يحملون متاعهم، لا بد أنهم مغادرون مثلنا...
دقائقٌ صعبة و مليئة بالقلق، الترقب، وبعض النقاشات الهزلية لتخفيف حدة الموقف، وضحكاتٍ مغتضبة.

وصلنا بسلاسة ودون ايت مشاكلٍ تذكر.
الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه... ها نحن ذا، كما نقول "تامين لامين لا فاقدين ولا مفقودين". الحمد لله يا الهي فوعزتك اني لاعلم لطفك علينا وسترك علينا وانه كبير بالقدر الذي أجهل مداه... واني لأشكرك وأحمدك حتى يبلغ الحمد منتهاه.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 29, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الخامسة عشر من أبريلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن