حياة الإنسان عبارة عن رحلة في قارب وسط المحيط تتلاعب به الأمواج غير مدرك لنهاية هذا المحيط..القدر هو كتلك الامواج يتحكم بنا ونسير على خطاه ..نبكي ونتذكر تلك الذكريات حيث كنا في الماضي..نتحسر أو نفرح على حالنا اليوم ..ونحتار حول كيف ستكون حالتنا غداً..وفي كل هذا يكون القدر هو المتحكم..يكون دور البطولة لقدرنا الذي طغى على المنطق في حياتنا..نعم إن القدر هو قائد ذلك القارب في وسط ذاك المحيط.....
انظرُ لذلك الطفل الصغير _الذي يتراوح عمره على ما أظن بين الخمس والست سنين_وهو يركض إلى سيارة الألعاب وضحكاته تتعالى كلما رأى نفسه اقترب من بائع الألعاب..كما لو أنه يركض إلى صندوق مليء بالمال حتى يقضي دين.. أو يركض إلى والده الذي تعافى من مرضه.. أو إلى أخوه الذي عاد من الجيش..أو إلى والدته التي استفاقت من موتها..يركض لهم حتى يسرق منهم عناقاً اشتاق له.. خوفاً من أن يذهبوا مرة أخرى ولا يعودوا أبداً...
ضحكتُ قليلاً وقلت في نفسي:أليست تلك أحلامي الآن؟؟!
وبعد أن تمعّنتُ بضحكة وملامح الصغير شردت وعدت إلى الماضي..عندما كنت بعمر ذلك الصبي....
(لا تركض بسرعة يا بني..قالت امي بينما تتبعني وانا اركض..اجبتها بصراخ:أريد أن أصل إلى سيارة الألعاب قبل أن تذهب...)
كل يوم كنت أسعى لتحقيق أمنيتي وهي أن أصل إلى سيارة الألعاب واشتري لعبة كما باقي الأولاد..وكانت المرة الأولى التي أصل فيها إلى تلك السيارة ..ولكن كانت قد نفذت الألعاب..في ذلك الوقت لقد كُسِرَ خاطري وحزنت كثيرا وبدأت بالبكاء..فقد ذهب حلمي بالهباء وشتمتُ بائع الألعاب..
(أكرهك يا بائع الألعاب..وضعت أمي يدها على شعري وهي تمسح عليه..وقالت:هل يعقل أن تبكي من أجل مجرد لعبة !! أنت تملك غيرها الكثير..اجبتها وانا امسح دمعاتي: إنه حلمي يا امي!..ربتت بيداها على كتفاي وقالت بينما الابتسامه لا تفارق شفتاها:آآهِ على هذا العمر..كم اتمنى ان يكون حلمي نفس حلمك!!
سألتها بفضول: ولكن ما هو حلمك يا امي؟؟..اجابتني وصوتها يرتجف:أن أراك وانت ناجح ولديك عائلة رائعه قبل أن أموت..وان تتلاشى همومي واعيش أيام جميلة معك ..اجبتها بحماس:سأصبح قرصانا قويا يا امي..وكما انكي لن تموتي سوف تبقي معي للأبد..وانا سأرمي بهمومك الى البحر بعيداً..هذا وعد )
نظرت لي أمي وابتسمت وكأن عيونها تقول شيئاً لم أفهمه في ذلك الوقت ولكن أنا أفهم الآن كل شيء .. أكملت طريقي إلى المنزل وأنا اتذكر الايام الماضية..بدأت الغيوم تملأ السماء والمطر ينزل ببطء حتى بدأ يشتد شيئاً فشيئاً..وفي هذه اللحظة أخذتني ذاكرتي معها إلى عمر العشر سنوات..
( كنت انظر إلى الخارج بينما السماء تمطر بغزارة ..جلست أمي جانبي وقالت متسائلة:الى ماذا تنظر؟..اجبتها بنبرة حزينة:لقد تهدّم المنزل الذي صنعته من التراب امبارحة.. أجابني والدي بحنو:عندما يتوقف المطر سنساعدك انا ووالدتك لبناء منزل آخر..لا تحزن .. أجبته وانا لم ازيل نظري عن النافذة:لكن ذلك المنزل كان مغايراً لأي منزل آخر كنت قد صنعته معكما..قال لي والدي مشجعاً:عزيزي بطلي الصغير..تعال حتى نخطط لبناء المنزل الجديد..وجهت نظري الى والدي معاتبا:لكن انظر حوّطت المنزل بالحجارة وبرغم هذا تدمرَ..نظر والدي الى عيناي وقال بهدوء:ألا تظن أنك لم تختر الموقع الصحيح له فلقد وضعته في مكان يتعرض فيه للهواء والمطر..لذلك من هذا نتعلم يا صغيري أنه مهما كنت قويا ستُدَمر إن لم تكن في موقعك الصحيح من هذه الحياة..)
والآن أشعر بحرارة هذه الدموع التي تنساب على خداي وقلت في نفسي:ألا ليت الزمان يعود يوما..زمان الطفوله والاحلام البسيطة..
مسحت دموعي وتابعت مسيري
دخلت الى المنزل وقد رأيت أقارب زوجتي واولادي يبكون ..دُهِشتُ من هذا وقد انقبض قلبي...ركضت حفيدتي باتجاهي وهي تقول:لقد نامت جدتي بعمق..ناديتها كثيرا لكنها تجاهلتني ولم تستفق..
نظرتُ الى ابني الذي كان غارقا بدموعه..ليقول لي:توفت امي..
صُدمت فهي في الصباح كانت بصحة جيدة..ما الذي حدث؟؟.. لتبدأ دموعي تتحسس وجهي وتتساقط لا إرادياً..عدت للوراء بمقدار عشر سنوات ..
(عندما أفلست وكان قد طُلِبَ مني إما دفع الإيجار أو الخروج من المنزل..وكانت ابنتي تحتاج قسطاً للجامعة..في تلك اللحظة صعدتُ الى غرفتي خجلا من زوجتي واولادي لأني لم أستطع تقديم لهم أي شيء جيد..شعرت بأني فاشل..لا استحق حبهم..دخلت زوجتي إلى الغرفة ..جلست بجانبي وبدأت تنطق بكلمات جعلتني أشعر أن الحياة لازالت مستمرة لم ينتهي الأمر بعد..يمكننا أن نعمل ونصلح كل شيء..فأصبحنا نعمل مع بعضنا _انا و إيّاها_ونكد ونتعب حتى نؤمّن لقمة العيش..كانت سنداً وعوناً لي في كل الأوقات..
لم أستطع تقبّل مشهد اولادي وهم يبكون وخاصة ابنتي التي انهارت..صعدتُ إلى غرفتي..وجدت جثة زوجتي على السرير وكم هي شاحبة وهادئة..فاشتد بكائي..تذكرت صباح اليوم..
(تقدمت زوجتي نحوي وهي تنظر لي بعيون مبتسمة وقالت:خذ ..هذا خاتم قد اشتريته منذ زمن ..قم ببيعه وأوفي دينك..هو لا يساوي الكثير لكنه ربما يفي بالقليل..
رفضتُ ذلك تماماً..لكنها أصرّت على هذا ودسّته في جيبي...)
كانت امرأة جميلة..نقية..رائعة وحنونة..لن ولم أجد امرأة أفضل منها من بعد امي رحمهن الله..
لقد حان وقت دفنها الآن..
وصلنا الى المقبرة..رَجِعَ ابني للوراء فهو لم يتقبّل أن والدته ذهبت إلى الأبد..حملوا الجثة حتى يضعونها تحت التراب..وفي هذه اللحظة اصابتني القشعريرة حيث مرَّ أمام عيناي شريط ذكرياتي معها..
لقد ذهبت الآن..ذهبت الى عائلة أخرى.. أتمنى أن تحظى بعائلة جيدة يعتنون بها..
لم أتوقع أن هذا الوقت سيمضي بسرعة..لقد رحل العديد من الأشخاص.. أخي الذي ذهب إلى الجيش واختُطِف ولم نراه بعد ذلك..لقد حدث قبل خمس وأربعين سنة.. أذكر كم كانت أمي حزينة ويائسة لم أرى ضحكتها منذ أن ذهب أخي حتى توفت..
(قبل موتها بلحظات ندهت لي انا واختي وأبي وودعتنا بابتسامة بسيطة ورحلت..تلك الابتسامة زُرِعت في ذاكرتي حتى الآن..وربما ستظل الى ما بعد الموت .. أما عن رحيل أبي فكنا نعرف في ذلك الوقت أن نهايته قد اقتربت فلقد عانى مع المرض كثيرا..وتوفيَ عندما كنت في الثلاثين..وفي ذاك الوقت عانيتُ من الاكتئاب لقد كان لي السند والاخ والرفيق والاب..)
هناك الكثير من الأشخاص الذين ذهبوا وتركوني وحيداً أُقاسي مرارة فراقهم..رحلوا ورحلت معهم الفرحة والسعادة والأمل وكل الذكريات الجميلة..لكن اعدكم أني لن انساكم أبداً..
رحمك الله يا زوجتي كنتي رفيقتي في درب حياتي..لقد كنتي معي دائماً..مباركٌ لكي النعيم في جنان الرحمن فأنتي تستحقينها..
عدنا إلى المنزل ونحن نستقبل التعازي..
بعد شهر..
كان المنزل هادئ ومخيف...كنت أجلس لوحدي انظر الى الحائط .. وإلى الصور المعلقة عليه..كنت أتذكر العديد من الأحداث..
أنت تقرأ
ستون عاماً
Roman d'amourتمر الأيام وتمر..سنة تأتي وعامٌ يذهب.. وتتوالى علينا الأيام..وما يبقى منها سوى الذكريات.. دوماً تخطر في بالنا ونتذكرها..نتحسر على تلك الايام..ولربما نتأسف على حالنا اليوم...... بدأت وانتهت بتاريخ 28/7/2022 تم تعديلها بتاريخ 11/12/2022